قضايا ودراسات

حين يتجاهل رؤساء أمريكيون مصالح بلادهم

عاطف الغمري

على ضوء تعقيدات النظام السياسي الأمريكي، وما هو معروف عن ثبات تأثير أوضاع السياسات الداخلية، على قرار السياسة الخارجية، يطل علينا من حين لآخر سؤال مُلحٌّ: هل يتخذ بعض رؤساء أمريكا أحياناً قرارات تخالف مصلحة الأمن القومي للولايات المتحدة؟.
إن البحث عن إجابة قاطعة، يتحقق من الاستشهاد بمواقف لبعض الرؤساء التي ثبت أن نتيجتها لم تكن لصالح الأمن القومى لبلادهم. فمثلاً ما أصبح معروف تاريخياً عن موقف الكذب الصريح من الرئيس ليندون جونسون على الشعب الأمريكي بشأن الحرب في فيتنام. وجونسون لجأ إلى الكذب عندما كانت شعبيته تترنح في عام 1964، وهداه تفكيره إلى قرارات ترفع معدل القبول به من جانب الرأي العام. من ثم وجه جونسون بياناً إلى الكونجرس وإلى الشعب الأمريكي، يعلن فيه أن زورقي دورية أمريكية تعرضا في خليج تونكين للهجوم من الفيتناميين الشماليين، دون أن يتعرضا لأي استفزاز من البحرية الأمريكية.
وثبت أن هذا لم يحدث بالشكل الذي صوره جونسون. وكانت خطة جونسون تهدف إلى أن يجلب له هذا البيان تأييداً داخلياً لقرار إرسال مزيد من القوات لمهاجمة فيتنام الشمالية. وبالفعل تمت زيادة أعداد الجنود الأمريكيين في فيتنام الجنوبية، مما تسبب في ارتفاع شعبية جونسون داخلياً.
ثم تبين فيما بعد من خلال التحقيقات أن جونسون كان يكذب على شعبه، وأن السفن الأمريكية في خليج تونكين كانت تتجسس على فيتنام الشمالية، وأدت كذبة جونسون إلى هزيمة أمريكا في فيتنام؛ أي أنه ألحق ضرراً بالأمن القومي لبلاده، وكانت هذه النتيجة دافعاً للرئيس نيكسون من بعده، للخروج من مستنقع فيتنام، باتفاق سلام مع الفيتناميين عام 1972.
الواقعة الأخرى حدثت في عهد نيكسون، عندما أوفد وزير خارجيته كيسنجر إلى موسكو عام 1972، حاملاً رسالة منه إلى الزعيم السوفييتي بريجينيف. وهو اللقاء الذي تم فيه الاتفاق الذي سمي بالوفاق(Detent)، ثم تبين فيما بعد أن كيسنجر لم ينقل إلى بريجينيف نص رسالة رئيسه، لكنه أدخل عليها تعديلاً وتحويراً، يتفق مع وجهة نظره السياسية.
ومؤخراً وجدنا أمامنا نموذجاً آخر، وإن اختلفت تفاصيله عن النموذجين السابقين، وهو الذي اعتمد على الإلحاح الذهني على عقل الرئيس، بإغرائه بأن قراره سيحقق له مصلحة شخصية داخلياً. فالرئيس ترامب اتخذ قراره بالاعتراف بالقدس عاصمة ل«إسرائيل»، بعد أن مر بمرحلة من التجهيز، أولى محطاتها كانت وجود مايك بنس في منصب نائب الرئيس. وما عرف من فتح ملف بنس، من أنه عضو قديم فيما يُسمى ائتلاف المسيحية الصهيونية، وهم أشد المتعصبين لكل ما تخطط له «إسرائيل»، ابتداء من الاستيطان، ورفض حل الدولتين، إلى الاعتراف بالقدس عاصمة ل«إسرائيل».
ومنذ تولى ترامب الرئاسة، ظل بنس يرتب له لقاءات منتظمة داخل البيت الأبيض مع قيادات المسيحية الصهيونية، الذين لم يتوقفوا عن إقناعه بنقل السفارة، وإغرائه بما سيعود عليه من فوائد، حيث سيصوت له في انتخابات الرئاسة القادمة، جميع أنصار المسيحية الصهيونية، الذين تقدر نسبتهم التصويتية ب 20% من إجمالي أصوات الناخبين.
وبالرغم من أن الموقف الرسمي لمن سبقه من الرؤساء كان ملتزماً بأن مصير القدس لا يتقرر إلا في مفاوضات الوضع النهائي، وليس بقرار منفرد، ومع ذلك خرج ترامب على ما يعد أمراً لصالح دولته، على الأقل على المدى الطويل.
هذه المواقف تأتي على النقيض من سلوكيات رؤساء آخرين، جعلوا الأولوية للأمن القومي لبلادهم، قبل أي اعتبارات سياسية أو شخصية. والمسألة في النهاية تتعلق بشخصية الرئيس نفسه، وما إذا كانت لديه الإرادة على تغليب مصالح الأمن القومي على حسابات مصالحه الشخصية.
هنا أستعيد من الذاكرة لقاء لي مع جيمس بيكر، وزير الخارجية الأسبق في مكتبه بمدينة هيوستون بولاية تكساس، وأنا أسأله عن هذا الموضوع بالذات. وراح يشرح لي الخيط الرفيع الفاصل بين حسابات مصالح الأمن القومي للشعب الأمريكي، وبين إغراءات الانحياز لمصالح جماعات الضغط، طمعاً في تأييدها له في الانتخابات، حتى ولو تعارضت مصالح هذه الجماعات، مع مصالح الشعب الأمريكي عامة.

زر الذهاب إلى الأعلى