قضايا ودراسات

كوارث إساءة استخدام الثروات الطبيعية

د. علي محمد فخرو
الروائي الأمريكي الشهير كتب رواية «اللؤلؤة» المليئة بالدروس والعبر. فصياد السمك المكسيكي الفقير، كينو، يعثر بالصدفة على لؤلؤة كبيرة، وحيدة زمانها وباهظة الثمن ومدخل لحل كل مشاكل حياته المعسرة.
لكن ما إن ينتشر ذلك الخبر بين سكان قريته حتى يدخل كينو المسكين في دوامة ما يعرف «بلعنة ثروات الطبيعة». فالحساد والغيورون يتكاثرون من حوله، والراغبون في سرقة جوهرته الثمينة يحيطون به ويتآمرون على حياته.
وتلاحقه اللعنات في كل خطوة يخطوها، إذ عندما يهرب مع عائلته من قريته مهاجراً إلى المدينة ليبيع جوهرته وينعم بحياة جديدة رغيدة حتى يتبعه اللصوص. هنا تتوسل إليه زوجته بأن يتخلص من الجوهرة بأية طريقة من أجل سلامة العائلة، لكنه يجيبها بأنه متمسك ببيع الجوهرة من أجلها ومن أجل أن يذهب ابنه إلى المدرسة ويتعلم ويخرج من حياة الفقر التي عاشها والده.
ولكن، ويالسخرية القدر، تأبى اللعنة إلا أن تصل إلى قمة مفعولها عندما يقتل اللصوص الابن وتموت مع موته أحلام الأب، وتصبح اللؤلؤة غير ذات قيمة في حياته.
لعنة ثروة الطبيعة التي عاشها كينو المكسيكي عاشتها وتعيشها كل الدول التي شاءت الأقدار أن توجد ثروة طبيعية تحت أرضها، سواء أكانت بترولاً أو غازاً أو نحاساً أو ذهباً أو ألماساً أو فسفوراً أو غيرها من أشكال ثروات الطبيعة.
أدبيات الموضوع تشير إلى صفات وممارسات ترتبط عادة بالدول التي تمنحها الصُدف والأقدار ثروة طبيعية، أي ثروة ليست ناتجة عن جهد وإبداع وتنظيم لإنتاج بضائع وخدمات للناس.
ففي حقل الاقتصاد هناك الكثير من الأدلة على تأثير الثروة المالية المتدفقة والناتجة عن بيع البترول أو الذهب أو الفوسفات أو غيرها، تأثيرها على سعر العملة المحلية الذي يصعد باستمرار، وعلى أسعار البضائع التي هي الأخرى ترتفع وتخلق تضخُّماً في الاقتصاد. وهذا بدوره يؤدّي إلى ارتفاع قيمة كل السلع الزراعية والصناعية والخدمية التي يراد تصديرها إلى الخارج، كما حدث على سبيل المثال مع هولندا عندما اكتشف الغاز في بحرها في سبعينات القرن الماضي ونتج عنه ما يعرف «بالمرض الهولندي» الاقتصادي.
وفي كثير من الأحيان أدت تلك المشاكل النقدية والتجارية الناتجة عن الثروة الريعية إلى ارتفاع كبير في نسب البطالة.
ولما كانت تلك الثروات الطبيعية ستكون موجودة حتى تنفد، وستكون لها حاجة ورواج في الأسواق، فإن رهنها لدى المؤسسات البنكية الدولية لسد ديون وقروض تقترضها الدول من أجل شراء أسهم أو استثمارات أو غيرها يصبح سهلاً وميسًرا، ما أدخل العديد من دول اليسر الريعي في لعنة الديون الثقيلة المتراكمة والمرهقة لأجيال الحاضر والمستقبل.
تلك كانت بعضاً من اللعنات في الاقتصاد. أما في السياسة فقد ارتبط وجود الثروة الطبيعة الريعية ومسألة من يملكها بتفجر صراعات وحروب أهلية، كما شهدته العديد من دول إفريقيا، وإلى انتشار الفساد المالي والرشاوي وشراء الذمم وترسّخ ظاهرة الاستزلام. وقد تم كل ذلك على حساب تواجد الحكم الديمقراطي الرشيد في تلك البلدان، كما في العديد من دول إفريقيا وأمريكا الجنوبية وآسيا، وفي الحالات التي استطاعت فيها ميليشيا مسلحة من السيطرة على أماكن إنتاج تلك الثروات الطبيعية، كما حدث في العراق وسوريا، عندما استولت «داعش» على الكثير من آبار البترول في هذين البلدين، فإن النتيجة كانت ضخ الدم في شرايين تلك الميليشيات وإطالة عمر تواجدها التدميري لتعيث في الأرض فساداً.
والسؤال: هل تلك الصور الاقتصادية والسياسية السوداء، المصاحبة للثروات الطبيعية الريعية، هي قدر محتوم لا فرار منه؟ الجواب هو كلاً.
فهناك تجارب لبلدان قليلة، من مثل النرويج، أثبتت أن بالإمكان تجنب كل تلك السلبيات من خلال إدارة الثروة الريعية بحكمة وتعقُّل ونظافة يد وإشراك للمجتمع في الإشراف على تلك الثروة للتأكد من توزيع آثارها وخيراتها بعدالة ومساواة.
مناسبة العودة إلى موضوع لعنة الثروات الريعية، المعروف والمدروس بشكل جيد في أدبيات الاقتصاد والسياسة، هو المشهد الحالي في وطن العرب المثخن بالنكبات.
من دون دخول في التفاصيل، فإن الثروات الطبيعية الريعية العربية، قديماً وحديثاً، وسواء بقصد أو من دون قصد، قد أقحمت من قبل البعض فيما لا يعنيها، واستعملت بأشكال خاطئة مفجعة في إشعال الحرائق بدلاً من إطفائها.
ومن دون لف ولا دوران تشهد الأهوال المبكية في طول وعرض بلاد العرب، وعلى الأخص في العراق وسوريا وليبيا واليمن والسودان والصومال وسيناء مصر، على أشكال لا حصر لها ولاعد من لعنة الاستعمالات الخاطئة لثروات العرب الطبيعية.
ومن دون لف ولا دوران أيضاً فقد ارتدت نتائج تلك الاستعمالات الخاطئة من جانب إحدى الدول على آخر معقل من معاقل الهدوء والسلام في أرض العرب، ونعني به دول مجلس التعاون الخليجي، لتدخل دوله في خلافات وصراعات كارثية، من الممكن أن تحرق الأخضر واليابس وتؤدي إلى مصائب اقتصادية وسياسية.
عند ذاك سنكون قد ساهمنا في أن تنطبق علينا نظرية «لعنة الثروات الطبيعية» التي أبرزنا بعضاً من وجوهها.
من هنا الأهمية القصوى للنظر في الخلافات الخليجية المشتعلة حالياً من خلال الثوابت والمصالح القومية العربية العليا.Original Article

زر الذهاب إلى الأعلى