جديد الكتب

أكتوبر: قصة الثورة الروسية

تأليف: جاينا ميفيل
عرض وترجمة:نضال إبراهيم

حدثت ثورة العمال والفلاحين بقيادة اشتراكية ضد القيصر نيكولاس الثاني في فبراير 1917، لكن الثورة الأقوى كانت في أكتوبر بقيادة فلاديمير لينين (1870-1924). يتساءل هذا الكتاب: هل حققت الثورة الروسية آمال وطموحات الملايين من الروس الفقراء؟ وما الذي حدث من شهر فبراير إلى أكتوبر من ذاك العام الصاخب ضمن صفوف البلاشفة الثوريين؟ يقارب المؤلف جاينا ميفيل وجهات النظر بشأن تلك الشهور، ويناقش العوامل التي دفعت إلى تأسيس الحكم الشيوعي الذي رسم مصير روسيا على مدى عقود، وما يمكن الاستفادة من تلك الحقبة.
كانت روسيا قبل الحرب العالمية الأولى بعقدين تقريباً تعاني التخلف، والاستبدادية الملكية، واحتجاجاً على سوء الأوضاع المعيشية تم تنظيم حدث كبير يوم 22 يناير 1905 مهّد للثورة الروسية، حيث خرج آلاف العمال في مسيرة إلى قصر القيصر يلتمسون ظروف عمل أفضل، لكن تم إطلاق النار عليهم من الجنود، وقتل وأصيب الكثيرون. وأطلق المؤرخون على هذا اليوم «يوم الأحد الدامي»، وتغيرت النظرة إلى القيصر، فبعد أن كان يعتبره الكثيرون مخلصاً لهم، بات أكبر أعدائهم.

غضب البروليتاريا

مع دخول بلادهم الحرب، أحس الشعب الروسي أنه غارق في حرب تعود عليه بالخسائر في ملايين الأرواح والأموال، فعمت حالة استياء كبيرة داخل البلاد، إذ إنه على مدى ثلاث سنوات (1914-1917) قتل ما يقارب مليوني جندي روسي وأصيب ما يقارب خمسة ملايين. وأمام ضغط من الطبقة الشعبية المؤلفة من الفلاحين والعمال والجنود الرافضين للحرب شهدت روسيا حالة من الإضراب في شهر فبراير، قابلها القيصر نيكولاس الثاني بالقمع، لكن ظهرت حالة تمرد ضد القيصر بين صفوف الجيش بعد رفض العديد من الجنود إطلاق النار على الشعب، وسرعان ما تحول الجيش كله ضد القيصر، ما اضطر القيصر للتنازل عن العرش، وتولى السلطة سوفييت بتروغراد والحكومة المؤقتة برئاسة ألكسندر كيرينسكي.
كان البلاشفة أحد الفصائل الرئيسية لسوفييت بتروغراد، يقودهم فلاديمير لينين الذي كان يرى أن الحكومة الروسية الجديدة يجب أن تكون ماركسية، ومع تصاعد الاحتجاجات وحدوث الثورة البلشفية تسلم لينين في أكتوبر 1917 زمام السلطة، وأصبحت روسيا بذلك دولة العمال الأولى في العالم، وكانت تحاول أن تكون في طليعة الثورة العالمية. يتساءل المؤلف: «كيف حدث هذا التحول الذي لا يمكن تصوره؟».
في الذكرى المئوية للثورة الروسية، يكشف ميفيل في مسح بانورامي، يمتد من سانت بطرسبورغ وموسكو إلى القرى البعيدة لإمبراطورية مترامية الأطراف، عن الكوارث والمؤامرات التي حدثت في تلك الفترة من التاريخ الروسي، وكذلك حالات الإلهام الحاصلة من ثورة 1917، ويدخل في مناقشات تاريخية طويلة الأمد، متوقفاً عند نقطة تحول كبيرة لا يزال صداها يدوي بصوت عال حتى اليوم، محاولاً تقديم قصة مختلفة لهذه اللحظة المحورية في تاريخ روسيا والعالم.
كاتب العمل في أساسه روائي رصين، ولكن هذا العمل ليس رواية أدبية، بل قصة روسيا في عام 1917 يسردها بطريقة أشبه ما تكون بالرواية التاريخية، لكنه يواجه فيها تحدي إعادة سرد الأحداث التي كتبت ونوقشت على مدى السنوات المائة الماضية. يقف عند قصة شعب كان أمام فرصة لاتخاذ خيارات حيوية لرسم مصيره، وعزم بعضهم على تحدي وجه التاريخ، وأرادوا التأكد بأن الماضي لم يحدد حاضرهم، ولن يصنع لهم مستقبلا محددا سلفا.

ميثاق الحرية

يستعرض ميفيل فصول الكتاب بحسب أشهر السنة بدءاً من فبراير، حينما تتحرر قوى الغضب من عقالها، ويعد الشهر الذي انطلقت فيه الثورة الروسية، يشير فيه الكاتب إلى الارتفاع المتأخر نسبياً للرأسمالية في روسيا، وكيف أن سكانها الفلاحين الذين تخلصوا من حالة الاستعباد في الآونة الأخيرة، كما يركز على التشكيلات السياسية الجريئة ودعمهم المهم من قبل أسلافهم في 1905، والآثار المدمرة للحرب.
يروي الكاتب أحداث كل شهر على حدة، ويبين كيف حدثت التطورات والإجراءات من قبل القوى السياسية بسرعة كبيرة، إذ يشير إلى أن الأزمة التي اجتاحت روسيا كانت تنشأ بسرعة، ومع حالة الحرب والتهميش والمشقة المتزايدة، سواء على الجبهة الحربية أو بالنسبة لأولئك الذين كانوا يكافحون في منازلهم لأجل البقاء على قيد الحياة.
يتحدث كيف أنه عقب إقفال الزعماء مصنع بوتيلوف الضخم في بتروغراد، وهو اليوم الذي يلي يوم 23 فبراير، وهو اليوم العالمي للمرأة، يقول: «مع انتهاء الاجتماعات، بدأت النساء بالخروج من المصانع إلى الشوارع ليطالبن بأعلى أصواتهن بالخبز. وسرن عبر أكثر المناطق العسكرية تسليحاً.. كن يطالبن الناس بالتجمع في الساحات بين الأبنية، ونجحن في ملء الشوارع الواسعة بأعداد ضخمة، وسارعن إلى المصانع لدعوة الرجال للانضمام إليهن».
يبين الكاتب كيف أنه بدأت التحركات الجماعية في الشوارع والثكنات والاجتماعات في الغرف والقصور الملكية. ويوضح تبلور التشكيلات السياسية المختلفة، ويتعامل في سرده مع التحالفات والائتلافات التي كانت تظهر وتختفي، كما هو الحال في الكثير من الأعمال السياسية. وبحلول نهاية هذا الشهر، نقرأ كيف أن القيصر يواجه نهايته مع إنشاء سلطة موازية، ما يمثل بالطبع الصراع الحقيقي لأجل الثورة.
وفي شهر مارس، تحتدم النقاشات الغاضبة من مختلف الأحزاب والكتل السياسية التي تحاول توطيد السلطة التي يمتلكونها سواء من خلال مجلس الدوما أو اللجنة التنفيذية السوفييتية. وفي غضون أيام يتم الاتفاق على قرارات الجيش إذ أن ممثلي الجنود يتدفقون إلى الاجتماعات السوفييتية مطالبين بمعرفة كيفية الاستجابة لمطالب الدوما في تسليمهم أسلحتهم. وقرار الاتحاد السوڤييتي، الذي أحيل إلى مجلس الدوما، يبلغهم بالشروط التي تدعم الحكومة المؤقتة، وهي: العفو عن السجناء السياسيين والدينيين، واستبدال الميليشيات الشعبية بقوة الشرطة، والاقتراع العام المباشر للجميع على قدم المساواة، وإلغاء التمييز، الحكم الذاتي للجيش مع انتخاب الضباط، وعدم نزع سلاح وحدات الجيش الثوري. ثم تقدم الجنود للبدء بإصدار «الأمر رقم 1»، وهو دعوة إلى تشكيل جيش ديمقراطي اعتبره تروتسكي «ميثاق الحرية للجيش الثوري» و«الوثيقة الوحيدة المستحقة لثورة فبراير».

لمحات عن لينين

يعرض الكاتب الأطروحات المتداولة في شهر أبريل، إذ يقدم فيه لمحات عن حياة لينين وفكره، حيث كان من منفاه في زيوريخ يقرأ ويحلل الثورة في بتروغراد، ويتابع التطورات السياسية. ويتناول الكاتب تحليل تفكيره الاستراتيجي الذكي الذي كان يجد من الضرورة أن تندفع الثورة إلى الأمام، فلم يكن في حساباته الحلول الوسطى. ويبين دوره المركزي في كثير من الأحيان مع البلاشفة، وكيف أنه من 1918 حتى 1920، حدثت في روسيا حرب أهلية بين البلاشفة (الجيش الأحمر) ومعارضيهم، انتهت بانتصار البلاشفة بقيادة لينين.
ويشير الفصل الأخير من الكتاب إلى أن الثورة أدت بلا هوادة إلى الستالينية، لكنه يستكملها بقراءة وتحليل كتابات لينين عندما يشير إلى فشل الثورة، تحديداً في أوائل العشرينات من القرن العشرين، حيث اعترف لينين فيها بالضعف الهائل للقوى الثورية. ففي عام 1917 كانوا صغاراً يفتقدون إلى الخبرة وروح الوحدة، على عكس حركات العمال في بريطانيا وألمانيا، ولكن هذه القوى الثورية كانت تمتلك طاقة ودعماً كبيراً من المتضررين من الحرب والفقر. وكان هذا الجيل الذي هزته الحرب الأهلية والتدخلات الأجنبية. هذا إلى جانب التدهور التدريجي لدور السوفييت الذين تحركوا، وكانت هناك حاجة لذلك، لأن المنظمات التي فرضت المساءلة على الأحزاب السياسية وزوالها أصبحت حاسمة على أرض الواقع.
ومما يقوله الكاتب في خاتمة عمله من أجواء الكتاب وثورة أكتوبر: «في وقت متأخر من مساء 26 أكتوبر 1917. يقف لينين أمام المؤتمر السوفييتي الثاني. وهو على المنصة ليتحدث.. أبقى جمهوره في انتظاره – كانت الساعة ما يقرب من ال 9 مساء – بقي صامتاً، والتصفيق يتصاعد من حوله. في نهاية صمته ينحني إلى الأمام، وبصوت أجش، يتحدث بأول كلماته الشهيرة إلى التجمع: «سنبدأ الآن في بناء النظام الاشتراكي». وهذا يثير فرحة جديدة في نفوس الجماهير، وتتعالى الهتافات».
ويقول أيضاً: لينين يتبع اليسار الاشتراكي الثوري، ليقترح إلغاء الملكية الخاصة في الأرض. وفيما يتعلق بالحرب، يصدر المؤتمر «إعلاناً لشعوب وحكومات جميع الدول المتحاربة» لأجل التفاوض الفوري من أجل السلام الديمقراطي. الموافقة تكون بالإجماع. «الحرب انتهت!» يخرج تعجب كبير وساحق. «الحرب انتهت!» الوفود تصرخ. يتحولون إلى أغنية جنائزية وليست احتفالية، تكريماً لأولئك الذين ماتوا في النضال من أجل هذه اللحظة.

بناء النظام الاشتراكي

أنهت روسيا الحرب العالمية الأولى من خلال التوقيع على مُعاهدة سلام مع ألمانيا تسمى «برست ليتوفسك»، وشهد الاقتصاد الروسي تحولاً من شكله الريفي إلى الصناعي، بعد أن استولت الحكومة الجديدة على جميع الصناعات والأراضي الزراعية من مُلَّاك الأراضي ووزعتها على الفلاحين، فضلاً عن حظر كافة أشكال التدين في جوانب كثيرة من حياة المجتمع، إلى جانب تعزيز حقوق المرأة، وجعلها على قدم المساواة مع الرجل.
تناول الكاتب مسألة التحولات الحاصلة، وكيف أن الكثير من الشعارات تبدلت مع الأيام، واختلف شكل النظام الذي كان من المتوقع بناؤه قائلاً: ولكن الحرب لم تنته بعد، والنظام الذي تم بناؤه يمكن وصفه بأي شيء سوى الاشتراكية. بدلا من ذلك، في الأشهر والسنوات التي تلت ذلك تشهد البلاد الثورة المحاصرة، والهجوم، والعزلة، التطهير، المجاعة، القتل الجماعي.
يرى الكاتب أنه من قصر النظر وضعف البصيرة أن ننظر عبر عدسات بسيطة إلى ثورة أكتوبر وانعكاسها على نضالات الوقت الراهن، مشيراً إلى أنه من العبث أيضاً القول أنه لا يوجد شيء يمكننا أن نتعلمه من الثورة الروسية، والكاتب من فكره الماركسي يوحي بأنه يجب الحفاظ على الطموحات الثورية وتطويرها كجزء من الترسانة الفكرية.
يقع الكتاب في 384 صفحة من القطع المتوسط صادر عن دار «فيرسو» للنشر باللغة الإنجليزية، ويأتي بعد المقدمة في عشرة أقسام هي: 1) ما قبل تاريخ 1917. 2) فبراير: دموع بهيجة. 3) شهر مارس. 4) أبريل: المبذّر. 5) مايو: التعاون. 6) يونيو: سياق الانهيار. 7) يوليو: أيام حارّة. 8) أغسطس: المنفى والمؤامرة. 9) سبتمبر: التسوية وحالات الاستياء. 10) أكتوبر الأحمر. خاتمة: ما بعد أكتوبر.

نبذة عن المؤلف:

ولد في 6 سبتمبر 1972، يحمل الجنسيتين البريطانية والأمريكية. يكتب في الفانتازيا الإنجليزية، والكوميديا، وهو ناشط سياسي وأكاديمي. فاز ميفيل بالعديد من الجوائز، منها جائزة آرثر سي كلارك (ثلاث مرات)، وجائزة الخيال البريطانية (مرتان)، وجائزة لوكوس لأفضل فانتازيا (مرتين)، وجوائز لوكوس لأفضل روايات قصيرة وأفضل كتب للشباب، وغيرها من الجوائز المحلية.
ميفيل ناشط سياسي يساري في المملكة المتحدة، وكان سابقاً عضواً في المنظمة الاشتراكية الدولية (الولايات المتحدة)، والشبكة الاشتراكية الدولية قصيرة الأجل. كما كان سابقاً عضواً في حزب العمال الاشتراكي، وفي عام 2013 أصبح عضواً مؤسساً في حزب «وحدة اليسار». نشر أطروحته في الدكتوراه عن الماركسية والقانون الدولي ككتاب. خلال الفترة 2012-2013 كان كاتباً مقيماً في جامعة روزفلت في شيكاغو. أصبح زميلاً في الجمعية الملكية البريطانية للآداب في عام 2015. يعيش حالياً في لندن مع أسرته.

زر الذهاب إلى الأعلى