قضايا ودراسات

الأزمة الليبية والمخاوف الإقليمية

د.إدريس لكريني

ما زالت الأوضاع الليبية تتأرجح بين الهدنة تارة، والتأزّم تارة أخرى، ذلك أن مختلف الفرقاء السياسيين بالبلاد لم يتمكنوا بعد من التوافق بشأن مدخل كفيل بإخراج البلاد من حالة الانتظار التي طالت كثيراً، والتي لم تعد تثير استياء وقلق المواطن الليبي فحسب؛ بل خلّفت أجواء من الترقّب والحذر في أوساط دول الجوار من ضفتي المتوسط، بالنظر إلى التبعات والانعكاسات التي ما فتئت يخلفها ارتباك الأوضاع على عدة مستويات؛ اقتصادية واجتماعية وسياسية وأمنية، وهو ما سمح بظهور عدد من المبادرات والمساعي الحميدة الداعمة للحل السياسي في هذا البلد المغاربي.
إن تزايد الاهتمام الإقليمي بتطورات الأزمة في ليبيا، مردّه تنامي المخاطر والتهديدات الناجمة عن تعقد الوضع في البلاد، بما يفرز مجموعة من الإشكالات العابرة للحدود، والتي تُلقي بظلالها على دول المنطقة برمتها، ويمكن إجمال هذه التحديات في مشكلة الهجرة التي باتت تؤرق صانعي القرار في أوروبا، فيما تزايدت التخوّفات من تزايد تهريب الأسلحة من وإلى ليبيا، بصورة تهدّد الأمن والسلم في عدد من دول المنطقة المغاربية، وبلدان الساحل الإفريقي.. وهي الأسلحة التي تشكل عامل إنعاش للجماعات المتطرفة في المنطقة، وخاصة منها جماعة «القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي»، و«بوكو حرام»، بعد الضربات القاسية التي تلقتها خلال السنوات الماضية؛ بل إن ارتباك الأوضاع داخل ليبيا، أسهم بصورة ملحوظة في جلب مقاتلين من تنظيم «داعش»، بعد تزايد الضغوطات التي واجهها في الفترات الأخيرة داخل التراب العراقي والسوري.
وتبرز التقارير والأخبار أن ليبيا التي تحتضن إمكانيات نفطية هائلة، تعيش منذ سنوات على إيقاع مشاكل اقتصادية واجتماعية صعبة، زادت من حدتها الارتباكات السياسية والأمنية المتلاحقة. ويعتقد كثير من الباحثين أن الصراع داخل ليبيا هو ذو طبيعة قبلية، أكثر منه صراعاً سياسياً، تعكسه تشكيلة المجتمع الليبي والتوازنات التي يفرضها واقعياً.
منذ سقوط نظام القذافي، ظل الهاجس في أوساط المجتمع الليبي هو بناء دولة حديثة تتسع للجميع ويتحقق فيها الأمن والازدهار، غير أن دخول الأطراف السياسية في تجاذبات وصراعات لم تخل من عنف، عقّد الأوضاع أكثر، وفتح المجال واسعاً أمام تدخلات أجنبية دعمت هذا الفصيل أو ذاك.
ورغم كثافة المبادرات الدولية والإقليمية المطروحة منذ سنوات، على طريق تسوية المشاكل المطروحة، ونبذ الخيارات العسكرية، فإنها لم توفّق في مجملها إلى حدود الساعة على مستوى تعزيز الاستقرار بليبيا، لاعتبارات عدة، يمكن إجمالها في تباين هذه المبادرات واختلاف مراميها تبعاً لأطرافها، وتشبث القوى الليبية بمواقفها وعدم تركيزها على المشترك، في مقابل استحضار نقاط الخلاف، وخاصة فيما يتعلق بالاتفاق على تقاسم السلطة والثروة بالبلاد.
ويذهب الكثير من الباحثين إلى أن المبادرات الدولية لم تكن بالنجاعة والموضوعية التي تدعم تثبيت الأمن والاستقرار في ليبيا، بقدر ما كانت تعكس خلفيات مصلحية لطارحيها، وهو ما جعل نتائجها عكسية، من حيث تحريض قوى ليبية ضد أخرى، وتوريد السلاح لهذا الطرف أو ذاك، وهدر الوقت والإمكانات دون جدوى.
وفي مقابل ذلك، حمّل آخرون مسؤولية تعقّد الأوضاع بالبلاد للفرقاء الليبيين أنفسهم، بسبب استحضار المصالح الشخصية والقبليّة والسياسية الضيقة، على حساب مصلحة البلاد، والتحرك بمنطق الغلبة، وعدم بلورة مواقف موحدة إزاء عدد من الملفات الكبرى والقضايا المصيرية، وفي خضم هذه التطورات، تحدثت تقارير إعلامية عن «الاتجار بالمهاجرين غير الشرعيين» داخل ليبيا، وهو ما نتجت عنه ردود فعل قوية من قبل بعض الدول والمنظمات الحقوقية، التي دعت إلى تأمين الحماية اللازمة للمهاجرين بصورة تضمن إنسانيتهم وكرامتهم، فيما باتت ليبيا تواجه تحديات خارجية خطرة، حيث حذرت كثير من القوى السياسية الليبية وبدول المنطقة، من مغبّة تهديد الوحدة الليبية، بعد بروز تقارير تتحدث عن مشروع خارجي يسعى إلى تقسيم البلد إلى ثلاثة أقاليم، أحدها في الغرب (طرابلس)، والثاني في الشرق (برقة)، والثالث في الجنوب (فزان).
وأمام تفاقم الوضع، حاولت الأمم المتحدة من جانبها تقريب المواقف بين مختلف الفرقاء الليبيين، وقادت مجموعة من المبادرات الودية في هذا الخصوص، كان أهمها اتفاق الصخيرات، الذي لعبت فيه دوراً كبيراً عام 2015، حيث اعتبره مجلس الأمن في حينه، بمثابة الإطار الوحيد للحل السياسي في البلاد، بالنظر إلى حجم القوى الليبية التي وافقت عليه، والترحيب الإقليمي والدولي الذي رافقه أيضاً.
ورغم الصعوبات التي واكبت تنفيذ الاتفاق، فقد لعبت دوراً مهماً عام 2017، فيما يتعلق بإقرار وقف إطلاق النار بين رئيس الحكومة فايز السراج، وخليفة حفتر، بناء على اتفاق سياسي، يقرّ كذلك بتنظيم انتخابات بالبلاد في بدايات عام 2018.
وفي شهر مايو 2018 برعاية أممية أيضاً، تم الاتفاق في باريس بين كل من رئيس حكومة الوحدة الوطنية فايز السراج، وخصمه شرقي البلاد المشير خليفة حفتر، إضافة إلى رئيس البرلمان عقيلة صالح، الذي يتمركز في طبرق شرقي ليبيا، ورئيس مجلس الدولة المستقر في طرابلس خالد المشري، على تنظيم انتخابات رئاسية وتشريعية في العاشر من ديسمبر القادم، في إطار قواعد دستورية وقانونية متفق بشأنها، وبتأمين من قبل القوات الأمنية الليبية الرسمية، وتعاون الأمم المتحدة، مع الإقرار بنتائج هذه الانتخابات، والسعي لتوحيد البنك المركزي ومختلف المؤسسات الدستورية والأجهزة الأمنية الليبية.

drisslagrini@yahoo.fr

زر الذهاب إلى الأعلى