قضايا ودراسات

التحولات الجيوسياسية للعلاقات العربية – الروسية

الحسين الزاوي

بدأت العلاقات العربية – الروسية تشهد تحولات كبيرة، وغير مسبوقة نتيجة للدور المتنامي لروسيا في منطقة الشرق الأوسط الذي يتزامن مع التراجع الملموس للدور الأمريكي في المنطقة العربية، من جهة، ومع انتقال مركز الثقل العالمي نحو أوراسيا التي تشهد تحولات جيوسياسية كبرى بفضل تنامي القوة الاقتصادية والعسكرية لكل من روسيا والصين، من جهة أخرى. وقد استطاعت القوى الإقليمية أن تقرأ تطورات المشهد الدولي بكثير من الواقعية والعقلانية، حيث عمدت المملكة العربية السعودية إلى تثبيت خيارها المتعلق بإعادة تقييم شامل لعلاقاتها مع القوى الكبرى، وفي مقدمها روسيا، وتوِّج هذا المسار بزيارة تاريخية قام بها العاهل السعودي الملك سلمان بن عبد العزيز إلى موسكو، كان من نتائجها الإيجابية إبرام الجانبين اتفاقيات عدة في مختلف مجالات التعاون، لاسيما العسكرية منها. ويحدث كل ذلك في سياق تطورات إيجابية لافتة تشهدها علاقات روسيا مع تركيا الحليف الأول للولايات المتحدة، في اللحظة نفسها التي تتصاعد فيها حدة الخلاف بين واشنطن وأنقرة، ليؤشر كل ذلك إلى أن التحالفات الدولية والإقليمية في المنطقة بدأت تشهد تغيّرات عميقة من شأنها التأثير مستقبلاً في خريطة التوازنات السائدة.
ويمكننا القول إن ما يميز مسار العلاقات العربية – الروسية الجديد عن المسارات السابقة لهذه العلاقات، هو الصبغة البراجماتية غير المعهودة التي بدأت تتخذها السياسية الخارجية الروسية، إذ إنه، وإضافة إلى حلفاء روسيا التقليديين في المنطقة، فإن موسكو تبدو حريصة على إقامة علاقة شراكة متوازنة مع كل الدول العربية، مشرقاً ومغرباً، الأمر الذي يتجلى بكل وضوح من خلال التطورات التي باتت تشهدها علاقات موسكو مع كل من المملكة العربية السعودية، والمملكة المغربية التي زارها مؤخراً رئيس الوزراء الروسي ديمتري ميدفيديف، في سياق جولة مكوكية قادته إلى منطقة المغرب العربي. ويتقاطع هذا الموقف الروسي الجديد مع مواقف الأغلبية الساحقة من العواصم العربية التي تعمل على تدشين مرحلة جديدة في علاقاتها مع موسكو في سياق محيط دولي بات يتجه بخطوات سريعة نحو التعددية القطبية، وبالتالي فالموضوع لا يتعلق فقط بتحليل أبعاد الاستراتيجية الروسية في المنطقة، بقدر ما يرتبط في اعتقادنا بمحاولة فهم حاجة الدول العربية إلى إقامة علاقة متوازنة مع روسيا أسوة بعلاقاتها الراسخة مع معظم الدول الغربية.
ويرى المراقبون في السياق نفسه، أن الرياض عملت مؤخراً على إجراء تقييم شامل لعلاقات المملكة مع الخصوم والحلفاء على حد سواء، بهدف التعامل بشكل فاعل مع مختلف المتغيرات المرتبطة بإعادة تشكيل التوازنات في المنطقة، وبالتالي فقد جاءت زيارة خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز إلى روسيا في توقيت ملائم، ومدروس، وهدفت إلى وضع النقاط على الحروف بشأن جملة من القضايا الأساسية والشائكة في المنطقة، والمتعلقة بالتمدد الإيراني، والأزمة السورية، وباستقرار سوق الطاقة في العالم، إضافة إلى مستقبل العلاقات بين الطرفين في مرحلة ما بعد إعادة الدفء إلى المحور الرابط بين موسكو والرياض خلال الفترة الرئاسية المقبلة لبوتين التي سيجري تدشينها خلال السنة المقبلة.
كما أن التقارب السعودي – الروسي الأخير، يبدو في نظر الكثير من المتابعين للسياسة الدولية مستقلاً إلى حد بعيد عن علاقة الجانبين بواشنطن، ولا يمثل بأي شكل من الأشكال ردة فعل عاطفية عابرة تجاه سلوكات وسياسات الولايات المتحدة في المنطقة العربية، لكنه يظل بالرغم من ذلك متواضعاً إلى حد ما من حيث أبعاده الاستراتيجية، على الأقل في المرحلة الراهنة؛ لأن العلاقات التاريخية الراسخة ما بين واشنطن والرياض مازالت تحمل أهمية استراتيجية كبرى بالنسبة إلى العاصمتين، ولكن في سياق مشهد دولي باتت تتميز فيه خطوط العلاقات ما بين الدول بنوع من الانسيابية والتداخل، الناجم عن نهاية مرحلة الاستقطاب الأيديولوجي الذي كان يتسبب بجمود وانغلاق التحالفات ما بين الدول.
ونستطيع القول في السياق نفسه إن مواقف واشنطن الغامضة والمريبة من المسألة الكردية، لاسيما في المنطقة العربية، تدفع دولاً مثل العراق إلى إعادة النظر في طبيعة تحالفاتها مع الولايات المتحدة، لاسيما بعد التصريحات التي أطلقها السيناتور الأمريكي جون ما كين التي حذر فيها من استخدام الجيش العراقي للأسلحة الأمريكية ضد الأكراد. وتفسّر هذه المواقف الأمريكية الملتبسة إلى حد بعيد، لجوء السلطات العراقية إلى تنشيط علاقاتها مع موسكو من أجل الحصول على أسلحة تمكنها من المحافظة على وحدتها الترابية، لأن تداعيات الاستفتاء الكردي في شمال العراق مازالت مفتوحة على كل الاحتمالات. كما أن المعارضة السورية، وبالرغم من رفضها لسياسة موسكو، إلا أنها لا تشعر بالارتياح تجاه الدعم الذي تقدمه واشنطن لأكراد سوريا، وترفض أن يتكرر سيناريو كردستان العراق على الأرض السورية.
من الصعب بناء على ما تقدم، أن نستشرف بشكل واضح مستقبل العلاقات العربية – الروسية، لاسيما مع دول عربية كبرى تربطها علاقات قوية مع الولايات المتحدة مثل السعودية ومصر، لكننا نستطيع، ومن دون السقوط في آلية المقارنات العبثية ما بين الدول الكبرى، أن نستنتج أن العلاقات العربية مع روسيا والصين ومنطقة أوراسيا بشكل عام، ستعرف مستقبلاً الكثير من التطورات الناجمة عن الدور الريادي الذي باتت تلعبه هذه القوى الصاعدة في مرحلة ما بعد نهاية الأحادية القطبية، خاصة أن الدول العربية الساعية إلى المحافظة على كياناتها الوطنية، بحاجة الآن أكثر من أي وقت مضى إلى نوع من التحالفات السائلة حتى لا نقول الظرفية، من أجل تجاوز تحديات وصعوبات المرحلة الراهنة الناجمة عن الطفرات الجيوسياسية التي يعرفها العالم، والتي تسببت حتى الآن بحدوث اضطرابات خطيرة على مستوى المنطقة العربية من المحيط إلى الخليج.

hzaoui63@yahoo.fr

Original Article

زر الذهاب إلى الأعلى