قضايا ودراسات

التعايش ودراسة النموذج

عبدالله السويجي

التعايش السلمي كان ولا يزال هدف البشرية منذ أن بدأ الإنسان يعيش ضمن مجموعات ومجتمعات، ومنذ أن بدأ يتقبل مشاركة أخيه الإنسان لموارد الطبيعة والجغرافيا الواحدة، ويبقى هذا الشعار ضرورياً في ظل تعدد الأديان والمذاهب والثقافات والعادات والتقاليد والأعراف، لا سيّما مع نزعة التطرف التي تجددت في العقود الأخيرة في كل مكان وبنسب متباينة، وخاصة في الشرق الأوسط وجزء كبير من آسيا وإفريقيا، بعد أن نال الغرب نصيبه من الحروب الدينية التي أودت بحياة مئات الآلاف من البشر، لكنه تغلب عليها بتطوير قوانينه، التي أصبحت عامل جذب لناشدي الحياة السلمية في المجتمعات التي تقبل الآخر رغم اختلافه لوناً وديناً ولغة وعرقاً.
لقد عانت البشرية من العنصرية ردحاً طويلاً من الزمن، ولا تزال مزدهرة في أماكن أخرى مثل الممارسات «الإسرائيلية» في فلسطين، كما عانت من الشوفينية ونظريات التفوق العرقي لقرون طويلة مما أدى إلى حروب عالمية كانت مدفوعة بأطماع اقتصادية ونوايا استبدادية واستعمارية، وهذه أيضاً راح ضحيتها ملايين الأبرياء في أنحاء العالم كافة. ويبدو أن الصراع لم يخفت وهجه ويهدد بحرب عالمية ثالثة، وهذه إن وقعت ستكون نتائجها كارثية على سكان الكرة الأرضية ولن تستثني أحداً، فما تملكه الدول من أسلحة يكفي لتدمير أضعاف حجم الكرة الأرضية، والأمل معقود على الحكماء في هذا العالم ونجاحهم في محاربة النوايا الشيطانية التي تعشعش في صدور البعض.
جميع الأديان تحض على التعايش والتسامح واحترام الإنسان لأخيه الإنسان، لكن تسييس الدين أدى إلى استغلال التعاليم ووضعها في خدمة الذين يعانون من جنون العظمة والسيطرة على العالم، فنشبت حروب ظاهرها ديني وباطنها استعماري توسّعي، وقسمت العالم إلى أحلاف، وفشلت منظمة الأمم المتحدة منذ إنشائها حتى اليوم في معالجة هذه القضايا الخطرة، ربما لأنها محكومة من قبل الدول الكبرى المتنافسة على سيادة العالم، على الرغم من برامجها الثقافية ومحاولاتها في نشر ثقافة السلام واحترام الثقافات والخصوصيات والديانات.
تجربة الإمارات في التعايش السلمي لم تنل نصيبها الكافي من الدراسة والبحث، ولم تلفت انتباه الأكاديميين المواطنين وغير المواطنين، ربما لأنهم ينظرون إليها كواقع معيشي تحول إلى بديهية وسلوك يومي، لكن هذا لا يكفي، ولا بد من التمعن في مسألة جديرة بالاهتمام، تتمثل في قدرة الجميع على ممارسة قيم التسامح والسلام وتقبل الآخر، وكيف تعيش مجموعات تحمل ثقافات مختلفة وديانات ومذاهب متباينة، قادمة من دول ربما تكون متناحرة، ورغم ذلك تتعايش في ما بينها وتتفاعل إيجابياً، وربما تنشأ بينها صداقات عميقة، هل يعني هذا أن الإنسان حين يغادر بيئته يعود إلى نفسه التواقة للسلام ويتعامل مع الجميع بمحبة وصفاء وتسامح؟ وهل هذا يعني أن البيئة تجبر الإنسان على نمط معين من السلوك والانحياز والاصطفاف ليحمي نفسه؟ ومع مرور الزمن يتأقلم الإنسان في البيئة الجديدة ويتمسك بها ويصبح قادراً على رؤية بيئته الأصلية بعين ناقدة وفاحصة؟ أم أن القوانين التي تساوي بين الجميع هي المسؤولة عن هذا التعايش، كما يحدث في الإمارات، إذ يلاحظ عدم وجود جرائم ذات صلة بالكراهية والمذهبية والعنصرية، وإن وجدت بعض القضايا فهي نتيجة لسوء فهم شخصي بين الأفراد.
إن ما يحدث في الإمارات من تعايش أكثر من مئتي جنسية على أرضها يؤكد أن الإنسان يستطيع أن يعيش بسلام مع أخيه الإنسان حتى لو اختلف معه أو اختلف عنه، بل يستطيع أن يعمل معه في مؤسسة واحدة ويشاركه تفاصيل حياته بسلام وسعادة، وهذا يحتاج إلى دراسة اجتماعية وسيكولوجية من قبل الباحثين، والنظر في أهمية تطبيق القانون ودوره في التعايش بين الأجناس والطوائف والجنسيات، ودور الابتعاد عن البيئة الأصلية في التخلص من التطرف، وتوفير البيئة الجديدة كافة متطلبات العيش الكريم والآمن.
إن الحملات والبرامج التي تطلقها وتنظمها المؤسسات في الإمارات لزيادة الوعي بأهمية التعايش السلمي لا تستهدف مواطني الدولة أو القاطنين فيها فقط، وإنما تستهدف الأجيال الصاعدة وتعزيز وترسيخ ثقافة التعايش والتسامح في نفوسهم وأفكارهم وسلوكهم، وهكذا نضمن ديمومة المبدأ.

suwaiji@emirates.net.ae

زر الذهاب إلى الأعلى