قضايا ودراسات

الثعالبي في الكويت

د. حسن مدن

ثمة صفحات، لا نقول إنها مجهولة، ولكنها تحتاج المزيد من الإضاءة، في التاريخ الثقافي لمنطقة الخليج العربي، كي نظهر أن الوعي الثقافي – التنويري ليس حديث العهد على هذه المنطقة، وأن بواكيره تعود إلى نهايات القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين.
وهذا قول لا بد منه برسم دعاة التزمت والانغلاق اليوم الذين لم يتعلموا من هذا التاريخ، لأنهم لم يقرأوه. ونستدل مما كتبه الرحّالة العرب من المثقفين والأدباء والمصلحين الذين زاروا بلدان المنطقة، على معلومات مهمة حول هذه الحقيقة، بينها، مثلاً، ما دوّنه أمين الريحاني في كتابه الشهير «ملوك العرب» من انطباعات ثرية عما لمسه من وعي للنخب الأدبية ودعاة الإصلاح الناقمين على الهيمنة الأجنبية على بلدانهم يومذاك.
ونفهم من الصفحات المنشورة من تاريخنا الثقافي، مقدار الاهتمام الذي يحيط به أفراد هذه النخبة الأدبية – الإصلاحية بضيوفها العرب من دعاة الإصلاح والتنوير والنهضة، وهو اهتمام أسهب أمين الريحاني في الحديث عنه.
ومن هؤلاء الرحّالة العرب الذين زاروا بلدان المنطقة في عشرينات القرن العشرين الزعيم السياسي والديني المصلح عبد العزيز الثعالبي ( 1874 – 1944)، أحد قادة النضال الوطني التونسي ضد الانتداب الفرنسي. والثعالبي حفيد قاضٍ جزائري معروف، لاذ بتونس من سطوة الفرنسيين على بلاده، وفي تونس ولد عبد العزيز الذي تلقّى علومه في جامع الزيتونة، وتأثر بالمناخ التجديدي في تلك الفترة.
وينقل عن أول رئيس للجمهورية التونسية الحبيب بورقيبة قوله، إنه عندما كان تلميذاً وقعت بين يده نسخة من كتاب «تونس الشهيدة» الذي ألّفه الثعالبي بالتعاون مع المحامي التونسي المقيم بباريس أحمد السقا الذي نقله إلى اللغة الفرنسية: «أخفيت الكتاب تحت غطائي وأنا متأثر شديد التأثر، فاطلعت على ما احتواه من أرقام وما تضمّنه من معلومات حول الأموات والفقر، وشعرت بالإهانة الناتجة عن الاستعمار، وكنت أبكي خفية».
اعتبرت السلطات الفرنسية كل من يطالع هذا الكتاب «عدواً لفرنسا»، واعتقلت الثعالبي انتقاماً، حيث مكث في السجن نحو عام، لكنّها اضطرت لإطلاق سراحه تحت ضغط الرأي العام في فرنسا وتونس. بعدها غادر الثعالبي تونس نحو المشرق.
وبعد رحلة طويلة زار خلالها الهند واليمن ودبي وعُمان والبحرين، أتى الثعالبي إلى الكويت لأول مرة عام 1924، لكن الدكتور مصطفى الستيتي يقول إن ذلك كان في عام 1925. وقد أتاها بالباخرة قادماً من البحرين، ووصف رائد الصحافة الكويتية عبد العزيز الرّشيد كيف استقبل الثّعالبي في الكويت، «حيث هرعت إليه ثلّة من أبناء الكويت المتعلمين على ظهر زورق ليستقبلوه من الباخرة، فيما اصطف النّاس على شاطئ البحر يهنّئونه بسلامة الوصول».
قيل في وصف هذه الزيارة إن الثعالبي «أقام الكويت وأقعدها»، في إشارة إلى ما تركته محاضراته وندواته في صفوف أبنائها من آثار، فتوافد علماء وأدباء وتجار وأعيان الكويت يرحّبون بمقدمه، ويستزيدون من علمه وأفكاره التي تحض على التحرر من الأوهام والخرافات، وتؤكد أن الدّين الصّحيح لا يخالف المدنيّة ولا العلوم العصريّة ولا يجافيها، داعياً أهل الكويت إلى الاهتمام بالتعليم والصحة.

madanbahrain@gmail.com

زر الذهاب إلى الأعلى