قضايا ودراسات

الجريمة والعقاب

خيري منصور

في زمن غير بعيد كان إيقاع الحياة في العالم ينتج بامتياز عن السائد من إيقاعات الزمن، فلا يتردد الروائيون خصوصاً في روسيا بكتابة أعمال خالدة يصل بعضها إلى آلاف الصفحات، ومنها أشهر روايات ديستويفسكي «الجريمة والعقاب»، وكذلك تولستوي إضافة إلى روائيين غربيين من طراز مؤلف رواية «البحث عن الزمن الضائع» لمارسيل بروست، وغالباً ما تعاد أسباب ازدهار الرواية في القرن التاسع عشر تحديداً إلى نمط الحياة، الذي كان يسيطر على العالم؛ بحيث لا بد من وجود وقت من الفراغ؛ كي يمكث الإنسان ساعات طويلة في سريره؛ لينهي رواية طويلة أو يتمطى على مقعد مريح عدة ساعات؛ ليسمع سمفونية.
وهناك من المؤرخين من أضافوا البيئة لفهم هذه الظاهرة، وباعتقادهم أن البيئات الباردة والأقرب إلى التصنيف الزراعي تساعد على انحياز الإنسان لما منحه حق العودة إلى الذات، وكان ذلك تقليداً معروفاً في روسيا بالتحديد؛ بحيث يقول ماركس إنه كان يقرأ مسرح يوريبيدس وارستوفانيس كل شتاء.
وبالطبع تغير العالم بعد وقوع عدة انقلابات كوبرنيكية فيه شملت كل نواحي الحياة، وأدخل التطور الصناعي وتطوير أنماط الحياة متغيرات لم تبق شيئاً على حاله. ولما أحس المشتغلون في سوق الثقافة بأن مثل هذا التغير بدأ يحتاج إلى تأقلم جديد، قامت مؤسسات تجارية بمشروعات تلخص من خلالها الأعمال الأدبية إلى أقل من خمسين صفحة أحياناً، ولم تنجح تماماً «رِد بوك» في ذلك؛ لأنها عهدت بهذه المهمة إلى متخصصين في القراءة؛ لكن المشروع الذي قام الروائي الفرنسي سومرست موم نجح إلى حدّ ما؛ لأنه كان يختزل الروايات بمهارة، ويحزر بفطرته ما هو جاذب ومثير للقرّاء.
والمقارنة بين جريمة عالجتها الصحافة الروسية وأخرى تعالجها الصحف هذه الأيام تفضي أن الفارق بين زمنين لا يقتصر على جوهر الجريمة فقط؛ بل على كيفية التعامل السايكولوجي والأخلاقي معها، وهذا أحد أهم أسباب عدم تكرار كاتب الجريمة رغم إمكانية تكرار الجريمة ذاتها؛ لأنه ما من ديستوفسكي آخر !!

khairi_mansour@yahoo.com

زر الذهاب إلى الأعلى