غير مصنفة

الدول ومخاطر إعادة التموقع الجيوسياسي

الحسين الزاوي

تواجه الدول الوطنية في العديد من مناطق الصراع بين القوى الكبرى، صعوبات كأداء في محاولتها التأقلم مع المتغيرات الدولية المتسارعة، وفي سعيها إلى إعادة التموقع في محيطها الجيو سياسي، نتيجة لتزايد اعتماد القوى الكبرى لاسيما الغربية منها على مجموعة من الفاعلين الإقليميين والمحليين المتمردين على السلطة المركزية للدول ومؤسساتها السيادية، حيث يرتبط هؤلاء الفاعلون في الأغلب بالقوى المدافعة عن العولمة ويتلقون دعماً كبيراً من طرف المنظمات الدولية غير الحكومية التي تسعى إلى تنفيذ أجندات مدمرة للأمن القومي للكيانات الوطنية والقومية في مناطق عدة من العالم.
كما تشهد في السياق نفسه، معظم الدول الواقعة في آسيا وإفريقيا وأمريكا الجنوبية، تحولات سياسية واقتصادية غير مسبوقة، ترتبط في جانب كبير منها بإعادة بناء تحالفاتها الدولية الموروثة عن مرحلة الحرب الباردة، تحولات يغلب عليها، حتى الآن، التخبط والاضطراب وعدم التوازن، وتتزايد آثارها السلبية نتيجة الفوضى وضبابية المعايير الموجِّهة للسياسة الدولية، مع دخول العالم مرحلة ما بعد الأحادية القطبية، التي ضاعفت من هشاشة الوضع الجيوسياسي للدول وأسهمت في تعدد مراكز القوى المؤثرة في صناعة القرار على المستوى الدولي بشكل فاق كل التوقعات.
وبالتالي، فإن لجوء القوى الكبرى إلى الاعتماد على الدول الافتراضية في مختلف مناطق الصراع لاسيما في الشرق الأوسط، أسهم بشكل لافت في إشاعة الكثير من الشكوك بشأن علاقات الدول الوطنية بهذه القوى، وخاصة بعد قيام الولايات المتحدة باستثمار الورقة الكردية من أجل تنفيذ أجندتها في كل من العراق وسوريا، تزامناً مع قيام روسيا بتوظيف القدرات القتالية ل«حزب الله» بهدف حسم الكثير من المعارك التي خاضتها قواتها الجوية في سوريا. ومع ذلك، فإن العديد من الملاحظين يذهبون إلى التأكيد على أن الشكوك التي نتحدث عنها، تتخذ منحى أكثر خطورة عندما يتعلق الأمر بالولايات المتحدة، التي لا تبدو أنها معنية بالمحافظة على وحدة وسيادة الدول الوطنية، وليس لديها مانع في تقسيم دول مثل العراق وسوريا، وحتى تركيا، الحليف الأكبر لها في المنطقة.
ويبدو أن هذا السلوك الأمريكي المريب، قد دفع النخب السياسية والعسكرية في تركيا مؤخراً، إلى إجراء إعادة تقييم شامل لتحالفاتها مع واشنطن وحلف الناتو. ومن ثم فإن هناك من يذهب إلى القول إن إصرار تركيا على الحصول على منظومة دفاع جوي من روسيا، يشير إلى أن شكوكها المتعلقة بالسياسات الغربية باتت شبه مؤكدة، لأن الإشارات السياسية التي يقدمها الحلفاء التاريخيون لأنقرة لا ترقى حتى الآن، إلى مستوى الضمانات التي من شأنها دفع الطرف التركي إلى حسم خياراته الاستراتيجية والجيو سياسية.
لقد دخل العالم في زعمنا، مرحلة لم تعد فيها قوة الحليف شرطاً كافياً لبناء تحالفات دائمة ما بين القوى الدولية والإقليمية، أو ما بين «المراكز والأطراف»، وخاصة بعد أن أسهم تعدد مراكز السلطة والقوة على المستوى الداخلي في إضعاف الدول الوطنية، وفي تراجع مستوى الولاء المجتمعي لها. صحيح أن الدولة ككيان لم تصبح متجاوزة حتى الآن، أو عديمة الفائدة، والنموذجان الصيني والروسي يمثلان أفضل مثال على ذلك، وفق ما يذهب إليه المفكر الفرنسي برتراند بادي. لكن الغرب الذي يحاصر الآن النموذجين المذكورين، ويتحالف سراً وعلانية مع مصادر رديفة، أو بديلة للدول الوطنية، لا يريد لهذه الدول أن تبقى القوة الوحيدة المحاورة له، أو الضامنة لمصالحه، ويعتقد أن الدول الضعيفة والهشة التي تتصارع بداخلها مراكز نفوذ متعددة هي التي تخدم مصالحه بشكل أفضل، خاصة بعد اكتشافه المفاجئ أن المكاسب التي جرى تحقيقها على أنقاض انهيار مؤسسات الدولة في العراق، من المستحيل تحقيقها من خلال الحصار، أو الضغط، أو بالتفاوض، وتقديم بعض التنازلات الرمزية الموجهة نحو الاستهلاك الإعلامي لشعوب تلك الدول.
وينتج عن هذه الوضعيات الجديدة التي أدت إلى تعدد مراكز السلطة في دول تعاني أصلاً ضعفاً مزمناً لمؤسسات الدولة، إلى دفع هذه الدول للدخول في حلقة مفرغة من الاضطراب السياسي نتيجة للصراعات الداخلية المستمرة التي تؤدي بشكل تدريجي إلى تفسخ الدولة، وإلى تآكل الروابط المجتمعية. وعليه فإن استبدال التعاون الذي ظل قائماً حتى الآن بين الدول العظمى والقوى الإقليمية، بسياسات بديلة مبنية على الشكوك وربما على المواجهة، قد يبرّر ذلك، ولو جزئياً، بعد التحالفات غير الطبيعية ما بين قوى محلية أو إقليمية متعارضة من حيث استراتيجيتها ومنطلقاتها الإيديولوجية، مثلما يحدث حالياً ما بين تركيا وإيران، كما قد يفسّر في اللحظة نفسها المخاطر الجمة التي يواجهها الكثير من الدول في إطار سعيها إلى إعادة التموقع ضمن فضاءات جيو سياسية مغايرة تسمح لها بالحفاظ على مصالحها، وعلى استقرارها ووحدة أراضيها.
ونستطيع أن نضيف عطفاً على ما تقدم، أن منطق الصراع والمواجهة الذي فرضته القوى الكبرى على الدول الوطنية التي نالت استقلالها بعد خروج الاستعمار في منتصف القرن الماضي، بات يُسهم بشكل واضح في إضعاف السلطة المركزية للدول، ومن شأنه أن يدفع الكثير منها إلى التحالف مع قوى كبرى لا تتبنى نظاماً سياسياً ومدنياً يحمل جاذبية كبيرة، ولكنه قد يسمح لها في المقابل، بتعزيز سيادتها ووحدتها الداخلية، حتى لو تطلب الأمر اللجوء في أحايين كثيرة، إلى ممارسات غير ديمقراطية ترفضها، وتدينها المنظمات الدولية المدافعة عن حقوق الإنسان؛ وينجم بالتالي عن كل هذا الحراك الجيو سياسي المتداخل وغير المتوقع، اتساع متواصل في دوائر ومساحات المواجهة، وعدم الاستقرار في مناطق التوتر الكبرى.

hzaoui63@yahoo.fr

Original Article

زر الذهاب إلى الأعلى