قضايا ودراسات

السنبلة

يوسف أبولوز

عاش محمود درويش شاعراً إنسانياً كبيراً، ورحل شاعراً إنسانياً كبيراً، ظل دائماً بعيداً عن الزيف والمكابرة والادعاء، صداقاته محدودة، وحياته كانت أنيقة ونظيفة ومرتبة. عاش في أكثر من عاصمة عربية وغير عربية.. من بيروت إلى باريس، إلى تونس إلى العاصمة الأردنية عمان محاطاً دائماً بهالة كاريزمية متأصلة فيه، فهو لم يسع إلى صناعة هذه الهالة كما يفعل بعض الشعراء، بل هو هكذا كان.. مطبوعاً على ما في داخله، وليس متطبعاً. شاعر كان دائماً وأبداً في ذاته بعيداً عن أية اختراقات من الآخرين، فلم يكن شاعر مقاهٍ أو حانات أو مهرجانات أو حفلات.. بل كان الضوء الإعلامي والاجتماعي يجري وراءه.
في الوقت الذي تثار فيه أكثر من علامة استفهام حول الشعراء المهجوسين بنوبل قبيل الإعلان عن الفائزين بالجائزة، كان محمود درويش أبعد ما يكون عن هذه الهواجس والاستفهامات، هو نفسه وفي رأيي الشخصي أكبر من نوبل، ففي داخله شيء من كبرياء المتنبي، وإن لم يكن يبحث عن إمارة مثل صاحب أهجية كافور، لا بل لم يمدح ولم يهجُ صاحب الجدارية التي تحولت إلى نشيد وأغنية نائمة على ركبة امرأة.
فتش عن أي ظلال لمذهبية أو طائفية أو عنصرية.. أو نرجسية.. فلن تجدها بالمطلق في شعر محمود درويش الذي أزعج الكيان العنصري «الإسرائيلي» أكثر من مرة.. أولها عندما كان شاباً، ووقف أمام المحقق «الإسرائيلي»، وأملى عليه برأس مرتفع:..«..سجل أنا عربي..» في فلسطين 1948 التي أراد الاحتلال أن ينزع عنها عروبتها.. ولم يفلح حتى الآن.. ولن يقدر.
في تسعينات القرن العشرين قرأ صاحب «لماذا تركت الحصان وحيداً..».. في مؤسسة عبد الحميد شومان بالقرب من الدوار الثاني في العاصمة الأردنية عمان. فاض الجمهور عن القاعة، فنصبت مكبرات صوت في الخارج حيث الجمهور الواقف على رصيف الشارع ليسمع قراءة السنبلة الفلسطينية الخضراء.
في تلك الأمسية قرأ الشاعر الصديق زهير أبو شايب وكاتب هذه السطور إلى جانب درويش على منصة واحدة، وكان من المفترض أن يقرأ أيضاً في تلك الأمسية شاعر تونسي غير أنه تهّيب أن يقرأ إلى جوار واحد من كبار الشعراء العرب فاعتذر عن عدم القراءة.
أفسح درويش لي ولزهير أن نقرأ أولاً، وكانت هذه أول مرة في حياة درويش يقرأ فيها مع شعراء. دائماً وحده كان سيد المنبر الشعري وسيد الإلقاء الكاريزمي الجاذب. كان سعيداً وفرحاً بنا. ولم يكن الجمهور جمهورنا، بل كان جمهور درويش، ولكن الاختبار تحدده القصيدة.. فكان أن نجحنا مرتين.. أولاً كسب صداقة درويش، وثانياً كسب جمهوره.
عاش ورحل دون أن يُخترق فعلاً.. صافياً وكبريائياً محاطاً بالأناقة من كل جانب.. وبالنساء أيضاً.. ولكن السنبلات منهن..

y.abulouz@gmail.com

Original Article

زر الذهاب إلى الأعلى