قضايا ودراسات

الصدام والسقام في الحضارات

عبداللطيف الزبيدي

كيف انبثقت فكرة «صدام الحضارات» في دماغ صموئيل هنتنجتون؟ لا بدّ من المنطلق الضروري: الرجل لم يكن مفكراً حرّاً عاديّاً، فقد كان عضواً في «مجلس الأمن القومي» في الإمبراطورية، الذي كان فيه برنارد لويس، المفكر غير الحر هو الآخر. من هنا فالعقول بينها سواقٍ. من أعلام ذلك المجلس الذين كانت لهم بصمات ووصمات: برجنسكي وكيسنجر. هل بقي من مجال للحديث عن الفكر بأبعاد المعرفة والحرّيّة والإنسانية؟ الآن من السهل الخوض في ما إذا كنّا أمام صدام حضارات أم لا. البداية التبسيطية تكشف لنا أن «صدام الحضارات» و«نهاية التاريخ» وما إليهما من عبارات خداع الفكر، إنما هي في الحقيقة خطط جيواستراتيجية مغلّفة بأوراق ملونة من المعرفة والثقافة: سعة اطلاع تاريخيّ، كأنك تضع في الخلاط إحاطة ويل ديورانت والعمق الفلسفيّ لدى أرنولد توينبي، وتصبّهما في دماغ كيسنجر ليهضمهما على طريقته، ويعيد صياغتهما في قالب نظرته إلى العالم. في لمح البصر تدرك لماذا أقحمت كلمة «حضارات» بخبث بعيد الأغراض في هذا الصدام. التصادم هنا خطة وبرنامج ومشروع، وليس تنبؤاً أو تخميناً أو استشرافاً. خطة القويّ المغتر بقدراته، الذي يرى منافسيه أعجز من أن يقفوا حجر عثرة في وجه انقضاضه على الفرائس التي حددها سلفاً.
يبدو استخدام لفظة حضارات غير منطقيّ مبرّر. هل يعقل مثلاً أن يكون الصدام بين الشعراء والفلاسفة والموسيقيين والعلماء؟ مثلاً: شجار باللكمات والركلات والكراسي بين المتنبي، هيجل، طاغور، بيتهوفن، بوشكين، كونفوشيوس، ابن خلدون، فولتير، حافظ الشيرازي، نيوتن، تشايكوفسكي وهلمّ جرّاً وطرحاً أرضاً. لكن الفكر المراوغ الذي له غايات استراتيجية بعيدة، انتقى مفردة «حضارات» بعناية، وإلاّ فكيف يمكن تشويه الإسلام وإخراجه في ثوب «داعشي» لتوظيفه في «الصدام»؟ هنا محاولة الخداع بأن همجية العدوان ليست سوى إنقاذ الحضارة من اللاحضارة، وأن الاستيلاء على الثروات ليس سوى مكافأة للمنقذ من القيم المضادة. القضية إذاً صدام قوى غير متكافئة، أي إعادة استعمار بطريقة أعنف وأعتى: التدمير. هل من باب المصادفة جاء «صدام الحضارات» بشعار «الصدمة والترويع»؟ الخطة متكاملة. اتساع الرقعة المستهدفة يستوجب تضخيم المصطلح «الحضارات»، لتوسيع دائرة التحشيد الدوليّ العالميّ، ضد الحضارة التي أصبحت بمغالطات الآلة الإعلامية الجبارة رمزاً للإرهاب النابع من دينها. بأيّ قيم وتعاليم وأخلاق ومبادئ إنسانيّة، تستطيع الحديث إلى العالم، إذا كانت كلها تتلخص في مفردة واحدة: الإرهاب؟ هو ذا الفكر الجهنميّ. رحم الله الجواهري: «وإذا أصبح المفكر بوقاً.. يستوي الفكر عندها والحذاءُ».
لزوم ما يلزم: النتيجة اللغوية: صدام الحضارات عنوان سقام الاحتضارات.

abuzzabaed@gmail.com

Original Article

زر الذهاب إلى الأعلى