غير مصنفة

العرب والبنى السياسية الصلبة

حسام ميرو

إن أي محاولة جادة تهدف إلى بناء مستقبل أفضل للعرب، دولاً وشعوباً، لا يمكن أن تقفز عن الدور المعطّل الذي لعبته البنى السياسية الصلبة في الوصول إلى ما وصلنا إليه اليوم من انهيارات في هذا العالم، طالت كل مفاصل الحياة العربية، من سياسة واجتماع واقتصاد وثقافة، وجعلت الدول عرضة للتفتت من الداخل والخارج، وظهور هويات كان يفترض أن الدول الوطنية قد تجاوزت مفاعيلها السلبية، لكنها عادت بقوة مع أول مواجهة حقيقية بين أنظمة الاستبداد وبين شعوبها، وهي الأنظمة التي تبنت شعارات التقدم والحرية والعدالة، من دون أن تحقق الحد الأدنى من تلك الشعارات.
لقد حكمت الشعوب العربية منذ مرحلة ما بعد الاستقلال أنظمة سياسية، فقدت مع الوقت أي مرونة في تغيير نفسها، وبهذا المعنى فقد تمحورت حول ذاتها وتصلّبت، ولم تعد تقبل أي حراك سياسي أو اجتماعي معارض لها، بل أنها قولبت معارضات على مقاسها، وأسمتها «معارضات وطنية»، وهكذا فإن مسطرة «الوطنية» أصبحت موجودة بيد تلك البنى الصلبة، وكل من يخرج عن تلك المسطرة فهو يخرج عن «الوطنية»، وقد سنّت مختلف الأنظمة العربية قوانين معلنة وغير معلنة من أجل معاقبة كل من تسوّل له نفسه انتقاد تلك المسطرة ومقاييسها.
وفي مواجهة أي حراك سياسي أو اجتماعي معارض ظهرت عدد من المحاكم في مختلف الدول العربية، من مثل محاكم أمن الدولة، والمحاكم العسكرية، والمحاكم الاقتصادية (لا تعمل وفقاً للقوانين الاعتيادية)، وقد اختّصت تلك المحاكم بمعاقبة معارضي الأنظمة، كما أن بعض الأنظمة أبقت معارضيها في السجون من دون أي محاكمات، حتى لو كانت شكلية، وقد أسهمت هذه الآلية في تطويع وترويض المجتمعات، عبر إشاعة الخوف في الوعي الجمعي من إبداء أي رأي مخالف للأنظمة السياسية، كما ساقت تلك الأنظمة شعوبها للاحتفاء بمختلف المناسبات التي تخص النظام السياسي الحاكم، مثل مناسبة ميلاد الحزب الحاكم، أو يوم وصولها إلى السلطة.
قامت الأنظمة السياسية بقلب المعادلة بين الاقتصاد والسياسة، فعوضاً من أن تكون السياسة تكثيفاً للاقتصاد، وتعبيراً عن أشكال الإنتاج، فقد أصبحت السياسات الحكومية هي من تحدد شكل الاقتصاد، وأشكال الإنتاج، وبالتالي فقد أخضعت الفاعلين الاقتصاديين لمصالحها، وهمّشت فئات واسعة، لمصلحة فئات أخرى مرتبطة بها، وتلاعبت عبر إصدار القوانين الاقتصادية بحركة السوق، ومنعت تفاعلاته الحقيقية لمصلحة مسار تحدده هي، لمصلحة النخب السياسية، والدوائر القريبة منها، وقد أدت هذه الآليات الحاكمة بين الاقتصاد والسياسة إلى إفقار شرائح واسعة من المجتمع، وإثراء قلة قليلة، وإشاعة ما بات يعرف ب«دولة المحسوبية»، القائمة على الفساد والرشى، وليس على الإنتاج الاقتصادي الحقيقي.
وفي إدارة الشأن العام، قامت البنى السياسية الصلبة بتفريغ الأشكال الحديثة للدولة من مضمونها، من مثل البرلمان ، والقضاء، والاتحادات العمالية، والنقابات المهنية، والاتحادات، وقد تحولت تلك الأشكال الحديثة إلى مراكز هيمنة للأنظمة الحاكمة، ومجالاً للسيطرة على المجتمع، وتظهير قيادات تابعة لها، وإقصاء القوى المعارضة، كما أصبحت تلك الأشكال التي يفترض بها تمثيل القوى الحية في المجتمع إلى قوة قمع ناعمة تضاف إلى قوى القمع الأخرى.
وقد تبنت الأنظمة الحاكمة العربية مقولة الأمن مقابل الأمان، فأصبح الأمان المجتمعي خاضعاً لقبول المجتمع بسلطة الأجهزة الأمنية، والتي أصبحت هي الحاكم الفعلي لتوجهات المجتمع وحركته، وقد أفضى هذا السلوك في إدارة المجتمعات العربية على مدار عقود إلى تراكم حالة عنف هائلة قابلة للانفجار.
إن الانتقال من البنى الصلبة إلى البنى المرنة يجب أن يكون هو الهدف الرئيسي لأي تحول سياسي-اجتماعي في العالم العربي، فالبنى الصلبة بطبيعتها لا تسمح بتدفق حر لحركة التاريخ الاجتماعي، وليس في منطقها أو خبرتها سوى مواجهة هذا التدفق، والإبقاء على القديم، وهي بهذا العناد تدمّر نفسها وتدمّر مجتمعاتها، وتفتح الباب أمام القوى الخارجية، وهو ما حصل ويحصل منذ سنوات، وبالتالي فإن تجنب المزيد من الانهيارات يستدعي من الدول المستقرّة أن تبدأ بالتحوّل من نظم سياسية صلبة إلى نظم سياسية مرنة.

husammiro@gmail.com

Original Article

زر الذهاب إلى الأعلى