مقالات عامة

الكلمة في أي سياق؟

د. حسن مدن

يُنسب إلى هربرت سبنسر، قوله: «إنه يستطيع أن يتعرف إلى مهنة من يُحدثه، ويقف على أحلامه وتوجهاته؛ بعد ربع ساعة فقط من الحديث معه».
سلامة موسى، يرى أن سبنسر بالغ بعض الشيء في قوله هذا؛ لكن فيما يتصل بالكاتب تحديداً، فإننا نستطيع أن نعرفه من الكلمات، التي تتكرر في مؤلفاته، فهذه الكلمات لا تتكرر اعتباطاً؛ وإنما لأنها تشكل حاملاً لأفكار ومشاعر هذا الكاتب.
وفقاً لهذا يرى سلامة موسى، أن الكتاب صنفان؛ صنف يزيدك حيوية كأنه يصب الدم الأحمر في شرايينك، وصنف يكسر جناحك وكأنه يصب الصفراء في عروقك، ومعيار هذا التقسيم عند موسى، هي الكلمات، التي يستخدمها كتاب كل صنف؛ حيث تتكرر عند الصنف الأول مفردات من نوع: (اليقظة، النهضة، التنوير، الارتقاء، المستقبل، العلوم، الإنسانية، الحرية، المساواة)، وفي المقابل تتكرر لدى الصنف الثاني مفردات من نوع: (الانسجام، الأخطار، الصعوبات، المستحيل، الفكاهة، النكتة، الحظ.. إلخ).
يظهر لنا أن سلامة موسى بالغ أيضاً في هذا القول، كما قال هو نفسه عن سبنسر. نقول: بالغ ولا نقول أخطأ، فصحيح أن طبيعة المفردات المتكررة في كتابات الكاتب تشي بطبيعة اهتماماته وتوجهاته؛ لكن العبرة ليست في المفردة ذاتها، وإنما في السياق، الذي ترد فيه، في الجملة التي تحملها.
وبشيء من الشرح نقول، إنه يمكن لكاتب من الخانة الأولى أن يستخدم مفردات أوردها سلامة موسى في خانة كتاب الصنف الثاني؛ لكنه يستخدمها في سياق مضاد، كأن يهجو الصعوبات أو يقلل من شأنها، أو يدعو إلى تحديها، وأن يحرض الناس بألّا يقنعوا بما هم عليه، وإنما يكافحوا؛ من أجل الأفضل.
والعكس صحيح أيضاً، كأن تكثر في مفردات الكاتب المحافظ، الذي وضعه موسى في الخانة الثانية مفردات التنوير والارتقاء والتطور؛ لكن في سياق محرض عليها، ساخر منها، أو داعٍ لليقظة والحذر تجاهها. فالكلمات، بحد ذاتها حمّالة أوجه ومعانٍ، ونحن من يضع هذه الحمولة فيها تبعاً للهوى الفكري أو الثقافي، الذي ننحاز إليه؛ حيث بوسع المفردة ذاتها أن ترد في سياقين نقيضين تماماً، حكماً من الموقع، الذي سيكون لها في سياق العبارة أو الفكرة.
لكننا رغم ذلك لا يمكن إلا وأن نتفق مع سلامة موسى في أن الكلمات أفكار وإحساسات، والكاتب الحسن هو الذي يعطيك الأفكار الخصبة فتفكر، كما يعطيك الإحساسات الأنيقة فتجمل نفسك، وتتأنق في عيشك، فلن تستطيع أن تقرأ لكاتب يسب ويلعن دون أن تحس البغض، وربما تتلوث نفسك به، ومن هنا دعوته لنا في أن نختار الكاتب، الذي يبعث في قلوبنا الشجاعة والذكاء والجد، لا ذاك الذي يملؤنا يأساً وإحباطاً، موجزاً بالقول: «اختر كاتبك بعناية تزيد عن اختيارك خبازك».

madanbahrain@gmail.com

Original Article

زر الذهاب إلى الأعلى