قضايا ودراسات

باريس.. الشانزليزيه

يوسف أبو لوز

أسبوع من المطر النّاعم والثلج ومقاهي الرصيف المعرّشة بقماش ملوّن ومقاعد متقاربة، ليس كافياً لتكوين ذاكرة باريسية تغذّي الكتابة عن شارع الشانزليزيه من مسلّة المصري وحتى قوس النصر على طول أكثر من 1900 متر في عرض أكثر من 70 متراً. وفي الشارع الأكثر شهرة ليس في فرنسا وحدها، بل وفي العالم تختبر ذاكرتك على رصيف المشي. والشانزليزيه شارع مشي وشارع العربات التي تقودها الخيول كما في لوحة جين بيرو (1848 – 1935
)، التي يظهر فيها رجل وهو يكنس الشارع وامرأة بقبّعة ومظلّة في أوّل اللوحة.
يكثر الكنّاسون اليوم في الشارع الباريسي التاريخي الذي يعود إلى العام 1616
؛ حيث لم يكن آنذاك من يرتدون «الصديريات الصفراء» كما يصحّح أستاذنا الكبير سمير عطا الله وبحسب ترجمته هي «الصديريات الصفراء» وليست «السترات الصفراء»، أمّا الكنّاسون فهم لا يرتدون الأصفر، وجاؤوا من «الجادّات» المجاورة ليكنسوا مخلّفات الجهل والعنف العشوائي الذي يشوّه واحداً من أجمل شوارع العالم وأكثرها رمزية تاريخية وثقافية.
أسبوع باريسي سريع في درجة حرارة تحت الصفر لا يشكل ذاكرة، ومع ذلك كأن الزائر السريع رأى ما لا رآه ذلك «الصديري الأصفر» الذي ما إن حمل الجواز الفرنسي بعد خمس سنوات فقط من الحرية والإقامة والكرامة، حتى انتابته نوبة من الهوج والعصاب في بلد ديمقراطي، أما جذور ذلك «الصديري الأصفر» فهي تعود إلى بلدان العصا والجزرة والكرباج.
وسوف أترك باريس إلى أهلها، وآخذك صديقي القارئ بعيداً عن اللون الأصفر، رمز المرض والغيرة والكآبة، إلى شعراء قالوا في باريس شيئاً من أرواحهم.
الفرنسية من أصل لبناني إيتيل عدنان تقول «هنا في باريس مدينة القرّاء المثالية. إن افتقدت أي إنسان، أو أي شيء، تعال إلى هنا، إلى باريس فهي مكان جيّد لمثل هذه الحالة الرّوحية، ستملأ زوايا قلبك الفارغة، إنها ليست مكاناً رومانسياً، بل هي مكان للرومانسية».
هل يعرف المتظاهر المتعصّب قيمة مدينته، ومعنى أن تكون مدينة رومانسية لا تستحق الخدش وتكويم القمامة المادية والسياسية؟ هذا ياسيدي لا يعرف الجلوس تحت جسر «ميرابو» حيث يجري نهر السين، ويجلس غيوم أبو لينير ويده بيد حبّه «يمضي الحب مثل هذا الماء الجاري»، ولا يعرف جاك بريفير «ذات صباح في ضوء الشتاء في حديقة ماتسوري في باريس.. على الأرض التي تحوّلت إلى كوكب الخريف»، ولا يعرف لويس أراغون عندما يقول «لا شيء فاتناً مثل باريس التي أملك».

yabolouz@gmail.com

زر الذهاب إلى الأعلى