قضايا ودراسات

دروس «ديمقراطية» من أمريكا اللاتينية

د.إدريس لكريني
لا تخفى التحولات الكبرى التي شهدتها مجموعة من دول أمريكا اللاتينية في العقود الثلاثة الأخيرة في مختلف المجالات الاقتصادية والسياسية؛ في علاقة ذلك بتحرير التجارة واعتماد نمط السوق الحرة؛ بفضل الإصلاحات الكبرى التي باشرتها هذه الدول على مختلف الواجهات؛ وبسعيها إلى طي مراحل قاتمة من الانقلابات العسكرية والصراعات الدموية على السلطة، بما خلق دينامية سياسية وتحوّلاً هادئاً ومتدرجاً نحو الديمقراطية.
إن سيادة مظاهر الاستبداد في عدد من دول أمريكا اللاتينية لم تمنع من بروز حركات اجتماعية مستقلة وقوية، فقد اندلعت منذ عقود احتجاجات دعت إلى توسيع مفهوم المواطنة وإلى إعادة توزيع السلطة والموارد، الأمر الذي أسهم في رحيل عدد من النخب التقليدية؛ وصعود نظم يسارية في البرازيل؛ وفنزويلا؛ والأرجنتين؛ وبوليفيا والأوروغواي.. بعد عقود من الحكم العسكري الديكتاتوري المسند من الولايات المتحدة الأمريكية.
وباستثناء هايتي التي شهدت انقلاباً عسكرياً في بداية التسعينات من القرن الماضي؛ وبنما التي أسهم التدخل الدولي في دعم التحوّل الديمقراطي فيها إلى حدّ ما؛ فإن دولاً أخرى قطعت أشواطاً كبيرة على طريق هذا التحوّل؛ بإحداث إصلاحات سياسية واقتصادية على درجة كبيرة من الأهمية؛ كما هو الشأن بالنسبة إلى المكسيك، والبرازيل، والتشيلي، والأرجنتين، والأوروغواي.
مرّت التشيلي بتجربة سياسية قاسية؛ عكسها نظام الديكتاتور أوغستو بينوشيه؛ الذي قاد انقلاباً عسكرياً عام 1973 بدعم أمريكي على نظام الاشتراكي سلفادور ألّيندي المنتخب ديمقراطياً، وكان هناك وعي بأهمية التوافق لمواجهة القوى المعادية للديمقراطية؛ كما تم التوافق أيضاً بشأن الإصلاح الدستوري واستراتيجية التحول بصدد إجراء الانتخابات؛ وشكل الحكومة؛ ونمط الاقتراع.. فيما فتح المجال أمام المرأة للمساهمة في بناء المرحلة؛ ما أسهم في تجاوز أزمة الثقة بين مختلف الفرقاء داخل المجتمع.
وقدّمت المكسيك من جانبها تجربة ديمقراطية ناجحة؛ سمحت على امتداد أكثر من عقدين بإضعاف النظام التسلّطي؛ وخسارة الحزب الحاكم لمنصب الرئاسة عام 2000؛ وظهور نظام جديد بأحزاب أساسية ثلاثة بدلاً من نظام الحزب المسيطر.
وشهدت فنزويلا في أواخر الثمانينات حراكاً سياسياً واجتماعياً كبيراً في مواجهة النظام العسكري القائم؛ ما أدّى إلى إجراء مجموعة من الإصلاحات؛ تمخض عنها تنظيم انتخابات رئاسية، وصل بموجبها الرئيس كارلوس أندرياس بيريز إلى السلطة، وقام بعدد من الإصلاحات السياسية والاقتصادية المنفتحة..
وفي منتصف الستينيات من القرن الماضي؛ تصاعدت أدوار الديكتاتورية في المشهد السياسي للبرازيل؛ قبل حدوث نوع من الانفراج والانفتاح؛ مع تراجع دور المؤسسة العسكرية في الحياة السياسية؛ وبخاصة مع إصدار دستور 1988 الذي دعّم مسار الإصلاح والانتقال الديمقراطي ورسخ مبدأ فصل السّلطات..
ونتيجة لهذه المتغيرات؛ أجريت انتخابات رئاسية في سنة 1989. وكان للعمال دور كبير وحاسم في دعم هذا التحوّل؛ حيث تنامت الاحتجاجات في عدد من القطاعات؛ مطالبة بإصلاحات تتعلق بدعم التحول الديمقراطي وأخرى مرتبطة بتأهيل هذه القطاعات.
وأسهمت العديد من العوامل والمقومات في إنضاج تجربة التحوّل الديمقراطي في البلاد بشكل كبير؛ استطاعت معها البرازيل أن تحقّق نمواً اقتصادياً واعداً على امتداد سنوات عدة، حيث برز الدور الهام الذي لعبته أجواء الاستقرار السياسي التي سمحت بمراكمة العديد من الإصلاحات.
وكان للتوافق الذي حدث بين مختلف القوى السياسية الديمقراطية من جهة أولى؛ والمؤسسة العسكرية التي بدأت تستوعب أهمية إقرار نظام مدني ديمقراطي من جهة ثانية؛ أثر كبير في هذا السياق.
وهكذا تم إصلاح التشريعات الحزبية والانتخابية؛ بصورة دعّمت المشاركة السياسية؛ ووفرت قدراً كبيراً من شروط التنافسية والشفافية، كما تمّ تطوير أداء المجتمع المدني الذي كان يعاني انغلاقاً وجموداً كبيرين.
وقد حرص الرئيس لويس إيناسيو لولا دا سيلفا على بلورة تواصل بنّاء مع مختلف الفاعلين؛ كما نجح في توفير أجواء الثّقة مع مختلف الفعاليات المعارضة؛ عبر السعي إلى تجاوز الممارسات الإقصائية، واحترام الأسس الديمقراطية؛ مع التركيز على مواجهة الإكراهات والمشاكل الاقتصادية المطروحة؛ وإعمال إصلاحات بنّاءة في هذا الشأن؛ مكّنت البلاد من تجاوز الكثير من المشاكل؛ وتسديد الكثير من الديون الخارجية المستحقّة للمؤسسات المالية الدولية؛ ومراكمة جهود هامة على مستوى تخليق الحياة العامة.
ولا تخفى التداعيات التي فرضها المحيط؛ في علاقة ذلك بآثار التجربة الأرجنتينية على مسار التحوّل في البرازيل؛ علاوة على توافق مختلف الفاعلين السياسيين بالبلاد في تحديد العلاقة بين المدني والعسكري بعيداً عن الهيمنة والتداخل.
أسهمت الكثير من العوامل الداخلية، أو تلك التي فرضها المحيط الإقليمي والدولي في إنضاج التجارب الديمقراطية لعدد من دول أمريكا اللاتينية التي أضحت من ضمن قائمة الدول الصاعدة، فإضافة إلى تآكل البعد الأيديولوجي دولياً؛ سمحت التوافقات السياسية القائمة وتجارب العدالة الانتقالية، وتحييد دور المؤسسات العسكرية واندماج القوى المعارضة، والولوج إلى اقتصاد السوق؛ وانتعاش وتطور فعاليات المجتمع المدني وإعمال إصلاحات دستورية وسياسية وازنة.. في تعزيز مسار هذه التجارب التي تقدم دروساً مفيدة.

drisslagrini@yahoo.fr

Original Article

زر الذهاب إلى الأعلى