قضايا ودراسات

دفع الزكاة في القضاء على مرض مُعدٍ

د. عارف الشيخ

من المعلوم شرعاً أن الزكاة المفروضة لها مصارف معينة أوردها القرآن الكريم في آية معينة هي قوله تعالى: «إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل فريضة من الله والله عليم حكيم» (الآية ٦٠ من سورة التوبة).
قال لي أحد الأصدقاء: إن بعض مصارف الزكاة في هذه الآية معطلة اليوم مثل وفي الرقاب وابن السبيل وفي سبيل الله، فهل يجوز أن نصرف مستحقاتهم من الزكوات المفروضة على جهات إنسانية أخرى يعود نفعها على الجميع مثل إنشاء مراكز طبية ومراكز أبحاث علمية من أجل إيجاد علاج للأمراض المزمنة كالسرطان والإيدز والتهاب الكبد وكثير من الفيروسات المستعصية على الأطباء.
قلت له: عندما تطرح مثل هذا السؤال يسمعك صنفان من العلماء: صنف يأخذ بظاهر النصوص ويبقى داخل القمقم ولا يستطيع الخروج لأنه لا ينظر إلى العلة التي فرضت الزكاة من أجلها ولا يسمح لنفسه بالاجتهاد.
وصنف آخر يدور مع العلة، ويستعمل عقله وفكره، ويسمح لنفسه ولغيره بأن يجتهد حسب الضرورة، ويقول بتغير الفتيا عند تغير الأحوال، ويفسر الآية والحديث بالنظر إلى مصالح العباد.
فعالم متفتح مثل الإمام الشاطبي المالكي يقول: «إن المقصود بمشروعية الزكاة هو رفع رذيلة الشح ومصلحة إرفاق المساكين، وإحياء النفوس المعرضة للتلف» (انظر الموافقات ج ٣ ص ١٢١).
نعم… لا شك أن الأولوية للأصناف الثمانية المذكورة نصاً في الآية الكريمة، لكن لماذا لا نفهم أن الأصل في صرف الزكاة على هؤلاء الثمانية هو ضمان كفايتهم وتدبير حياتهم من حيث السكن والمأكل والمشرب والتعليم والصحة والزواج وغيرها من المتطلبات الحياتية؟
ألم يقل الرسول صلى الله عليه وسلم لمعاذ بن جبل رضي الله عنه عندما أرسله إلى اليمن: فإن هم أطاعوا لك بذلك فأخبرهم أن الله فرض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم (متفق عليه).
أسألك بالله: هل الحديث حدد نوع الفقير أو حدد نوع حاجة الفقير، أم أنه عليه الصلاة والسلام ترك حاجته لنا لنقدرها حسب حاجته؟
فمن الفقراء من يحتاج إلى الطعام ومن الفقراء من يحتاج إلى المسكن، ومنهم من يحتاج إلى العلاج أو الزواج.
فهل إذا دفعت خمسين مليوناً زكاتي لمن يبني عيادة لمعالجة مرضى السكر أو مرضى الكبد الوبائي من الفقراء والمحتاجين، أكون قد خالفت الآية؟
كلا بل عملت بالآية في الصميم، لأن الله تعالى دعانا إلى عمارة الكون وبناء الإنسان والمحافظة على سلامته وكفاية حاجته بالمعنى الشامل، وهذا من المقاصد الكلية للشريعة الإسلامية، فالمهم أن يكون محتاجاً وحاجته مشروعة، ولا يهم بعد ذلك إذا كانت طعاماً أو لباساً أو دواء أو مصحة أو غير ذلك.
والمفهوم الآخر لقوله تعالى: «وفي سبيل الله» أن الآية تتسع لكل أعمال الجمعيات والمؤسسات الخيرية اليوم التي تقوم بإنشاء مراكز علاجية في مختلف بلدان العالم لتعالج قطاعاً كبيراً من المحتاجين غير القادرين على العلاج أو غير القادرين على تعليم أولادهم.
يقول الإمام الكاساني من فقهاء الأحناف: «وفي سبيل الله عبارة عن جميع القرب، فيدخل فيه كل من سعى في طاعة الله وسبيل الخيرات إذا كان محتاجاً» (انظر بدائع الصنائع – ج٢ ص ٤٥).
رحم الله الكاساني الرائد في الفقه الحنفي، بل رحم الله أبا حنيفة الذي تتلمذ على فقهه أمثال هؤلاء العظماء من الذين يستخدمون عقولهم بدلاً من أن يعطلوها وهي نعمة من الله تعالى يمنّ بها على من يستحق من عباده.
وصدق صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم عندما قال: «القائد العظيم يصنع قادة عظماء ولا يختزل المؤسسة في شخص واحد».

Original Article

زر الذهاب إلى الأعلى