مقالات عامة

رمضان وأسراره

د. خالد الخاجة

أسرار عجيبة يحملها شهر رمضان المبارك، قبل قدومه وعند حلوله وبعد انتهائه، تجعل النفس تروح بين ترقب وارتقاء وفقدان عزيز، تلك حالات نستشعرها ونعيشها ونلحظها، وكأن هذا الشهر المبارك بما حظي به من فضل بين شهور العام من الله سبحانه وتعالي، ومن نزول للقرآن الكريم فيه.

فضلاً عن جزاء عبادته التي نسبها الله إلى نفسه حين قال على لسان رسوله الكريم «كل عمل بن آدم له إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به» وهو ما يؤكد على خصوصية العبادة التي نتقرب بها إلى الله خلاله والتي تتطلب أجراً خص الله به نفسه في الجزاء، وعندما يجزي الكريم فلا تسأل عن حجم العطاء.

أتوقف طويلاً بالتأمل في أسراره حتى قبل قدومه حين تشعر بنسماته تهل وترى النفوس تتهيأ والأجساد تخف حركتها والنظرة تتبدل لما حولنا وما بين أيدينا، وكأننا نستعد للانسلاخ من حالة للدخول في حالة أخرى، تهيأ لحدث كبير قادم لا يصح معه أن يأتي دون أن نستعد، ولمَ لا!

هل يمكن لنا أن نستقبل ضيفاً غالياً وعزيزاً في بيوتنا بذات الهيئة التي تمر بها مسارات حياتنا اليومية، قبل القدوم تظل المراجعات حتى تتهيأ النفس للانفعال مع نفحات هذا الشهر وإلا فقد يأتي ويمر والخاسر من خرج منه كما دخل فيه، ثم ندرب النفس ونروضها لتكون أكثر تسامحاً وأكثر رضى وسمواً عما قد يعكر صفو التعامل مع هذا الحدث الكبير والزائر الكريم.

وعند قدومه تستشعر النفس أنها قد تبدلت وكأن رمضان بلمساته الربانية أذهب عنها أدرانها وخبثها، فتجد ما كنت تعتبره خضوعاً تجده تسامحاً وأن غاية ما تتعامل به مع الناس لا تقصدهم به لكن تقصد وجه رب كريم، وأن مجاهدة النفس للعطاء أصبحت أخف وأسهل، وأن التسابق على الخيرات بات مقصداً للتنافس بديلاً عن الدنيا.

وكأن رمضان شهر من الآخرة ينجح في اختباراته من استلهم صفات أهلها لا غل ولا حسد ولا حقد ولا غلول، ومنافسة على عرض من أعراض الدنيا كأنه مران مستمر على تزكية النفس بلا انقطاع حتى يذوق الفرد حلاوة الطاعة، وكما يقول الصالحون «من ذاق عرف»، وكأن رمضان هو الشهر الذي يمد الفرد بطاقة روحية للسير في غيره من شهور السنة، وتحمل ما يواجهه من خطوب الدنيا.

فالنفس البشرية تحتاج للتوقف بين الحين والآخر لمعرفة أين هي وكيف ستكمل مسيرتها في دنيا الناس حتى يقضي الله أمراً كان مفعولا، وعند فراقه تظل النفس تهوى إليه، تنتظر قدومه لتظل تلك الحالة السامية التي ارتقت النفس إليها، لذا كان صيام الستة من شوال أنساً للنفس حتى لا يذهب عنها رمضان بأسراره جملة واحد ة.

ولأن الأمر كذلك، ولأن العلم بالتعلم، ما يعني أن النفس وما يصدر عنها يأتي بالممارسة، فليكن رمضان البداية لأن نكون أكثر عفوا عمن نعتقد أنه ظلمنا يوما ما، وأن نعطي ونجزل العطاء لمن حرمنا، وأن نسامح من نال منا ذات يوم.

ليكن رمضان البداية لأن نكون المبادرين بالخير وأن نعطي عطاء من لا يخشى العوز، وليكن رمضان البداية لأن نسأل عمن صعب علينا أن نتواصل معه بقصد أو لمشاغل الحياة، وليكن رمضان بداية نجدد فيه الولاء والانتماء لوطن ننعم بخيراته ونستظل بظله وأن يكون الذود عنه غاية دونها الروح.

ليكن رمضان بداية ننظر ونجدد فيها القدرة على العطاء بمعناه الأكبر، الذي يعني أن نهضة الوطن والمساهمة في مسيرته التنموية المظفرة هدف أسمى، وأن ما وكل إلى كل منا من مسؤولية، مهما اتسعت دائرتها أو ضاقت، هي مهمة سامية وأن إتقانها غاية حتى لا نؤتى منها.

ليكن رمضان بداية للتصالح مع النفس وتهذيبها وتربيتها وتقويمها وإعادة وضعها على الجادة ومجاهدتها هي الجهاد الأكبر، ألم يقل الرسول الكريم عن ذلك بأنه الجهاد الأكبر، ولننهل من فيض عطائه مغانم نتزود فيها بالخيرات والبركات.

وكما قال الرسول صلى الله عليه وسلم موصياً أصحابه «أحكم السفينة فإن البحر عميق، وخفف الحمل فإن العقبة كؤود، وأكثر الزاد فإن السفر طويل، وأخلص العمل فإن الناقد بصير».

 

نقلا عن البيان

زر الذهاب إلى الأعلى