قضايا ودراسات

سياسة الراهن.. وراهن السياسة

الحسين الزاوي

يمر العالم في هذه المرحلة بحالة غير مسبوقة من الهشاشة الجيوسياسية نتيجة تراجع القواعد التي أقيمت عليها العلاقات الدولية بعد نهاية الحرب الكونية الثانية، وتسهم هذه الوضعية في جعل القوى الدولية الكبرى في مواجهة مفتوحة وغير مسبوقة، بشكل بات يهدد الأمن والاستقرار في كل أرجاء المعمورة.
ويذهب الملاحظون إلى أن التسارع المهول في مسار الأحداث، يجعل راهن السياسة الدولية يتسم بكثير من التخبط والارتجالية وفقدان الرؤية المتبصّرة والهادئة لمسار تعاقب الأحداث؛ الأمر الذي يجعل الممارسة الجيوسياسية للفاعلين السياسيين الرئيسيين تقع رهينة لما يمكن تسميته بسياسة الراهن التي تفتقد للحكمة، ولا تمتلك القدرة على الفصل بين تفاصيل الحدث وبين أسبابه ونتائجه، وتصبح من ثمة هذه الممارسة الجيوسياسية أسيرة للراهن المتحوّل وتتسم مقاربتها للوقائع بالسطحية.
وتكمن خطورة سياسة الراهن في كونها ترتبط بمسار الصراع على النفوذ ما بين القوى الكبرى في العالم، وقد يترتب على الأخطاء الناجمة عن حساباتها المتعجِّلة وأحياناً المتهافتة، دخول العالم في أتون حرب عالمية شاملة يدفع أثمانها الباهظة الصغار والكبار على حد سواء، خاصة بعد أن سقطت الدول العظمى في متاهات مواجهات اقتصادية وعسكرية من البحر المتوسط غرباً، إلى بحر الصين شرقاً؛ لأن سياسة الراهن تجعل ربابنة سفن السياسة الدولية يبحرون بمصائر أوطانهم ويتخذون قراراتهم الفجائية بناء على زاوية نظرهم الضيقة، وعلى ضوء مسار سفنهم التي تتخبط بين أمواج بحار ومحيطات الأحداث الدولية المتلاطمة.
هناك أسباب كثيرة تدفع بالسياسة الدولية نحو مزيد من الممارسات القائمة على سياسة الراهن، التي تجعل التصورات الجيوسياسية تفتقد إلى العمق والتركيز، وهي أسباب تعود في مجملها إلى كون راهن السياسة؛ أي أحداثها وتجلياتها المتجسِّدة على أرض الواقع، تتسم بتعقيد غير مسبوق في زمن تراجع التوازنات القائمة على الأحادية أو الثنائية القطبية.
إن راهن السياسة محاصر الآن بسياسات القوى الكبرى القائمة على التصعيد وفرض العقوبات، وعلى ابتزاز الدول والمنظمات . كما أن هذا الراهن محاصر بالأزمات والصراعات المنتشرة في كل أصقاع المعمورة، بداية من الصراع في الشرق الأوسط، والأزمتين السورية والعراقية وانتهاء بالتوتر المتصاعد بين الولايات المتحدة الأمريكية وبين كل من روسيا والصين، والاتحاد الأوروبي، وذلك فضلاً عن النزاعات الإقليمية والمواجهات المجتمعية داخل الدول الفاشلة.
وبالتالي فإن الفكرة الجيوسياسية الأساسية التي يمكننا استخلاصها من كل هذه التحولات الفجائية الناجمة عن انغماس العالم في سياسة الراهن، هي أن الممارسة الجيوسياسية التي لا تعتمد على الزمن الممتد، ولا تأخذ حذرها من الانفعالات المباشرة، لا يمكنها أن تساعدنا على تكوين نظرة تركيبية حول العالم، وحول ما يجري في عصرنا؛ إذ إن علاقات القوى التي تُهيكِل الأمكنة والفضاءات المتعددة، كما يقول بسكال جوشون، تبدو الآن غير مستقرة وتشهد تحولات غير متوقعة، بسبب انهيار المرجعيات التي قام عليها نسق العلاقات الدولية الذي ما زال ساري المفعول، حتى هذه اللحظة.
وقد دفعت هذه الوضعية الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو جوتيريس، إلى التحذير في كلمته التي ألقاها في افتتاح أعمال الجمعية العامة للأمم المتحدة، من تصاعد الفوضى نتيجة التهديدات التي تُنبئ بانهيار وشيك للنظام العالمي، المستند إلى مشروعية القوانين.
كما أجمع العديد من الخبراء والدبلوماسيين الدوليين الحاضرين في أروقة الأمم المتحدة، على أن السلوك المندفع والمتهور للإدارة الأمريكية الحالية، يُشجّع إلى حد كبير القوى الأخرى وفي طليعتها روسيا والصين، على تنفيذ رؤيتها وأجندتها الخاصة بشأن مستقبل النظام العالمي.
لقد أفضت سياسات الراهن إلى فقدان البوصلة الموجّهة للعلاقات الدولية، وعوض أن تعمل على حل مشاكل العالم، فإنها أسهمت في تعقيدها، حيث تكاد اتفاقية أوسلو أن تؤدي إلى تصفية القضية الفلسطينية، وإلى ضياع القدس وإسقاط حق اللاجئين في العودة، وهي الآن بصدد منح «إسرائيل» فرصة تاريخية من أجل فرض أجندتها على محيطها الإقليمي. وهذه السياسات نفسها، هي التي تدفع الرئيس الأمريكي ترامب إلى العبث بقواعد التجارة الدولية، وتكاد أن تتسبب في اندلاع مواجهات كبرى.
ونستطيع أن نستنتج عطفاً على ما تقدم، أن الممارسة الجيوسياسية الملتصقة بالراهن لا تأخذ في الحسبان المستويات المتعددة للتحليل، وتبدو في عجلة من أمرها، فيما يتعلق بالتعامل مع الأحداث، في اللحظة التي تستدعي فيها مثل هذه الممارسة، كما يذهب إلى ذلك الباحثان شوبراد وثووال، اللذين طالبا باستعمال مجهرين مختلفين أحدهما للرؤية عن بعد والآخر للنظر عن قرب، مع الانتقال من الخاص إلى العام ومن العام إلى الخاص، حتى لا يتم تشويه الحاضر والإضرار بالمستقبل.

hzaoui63@yahoo.fr

زر الذهاب إلى الأعلى