قضايا ودراسات

فردوس جبرا إبراهيم جبرا

يوسف أبولوز
لأكثر من سبب.. هل ينبغي تذكّر جبرا إبراهيم جبرا، ومرجعيته، والاقتراب من تعداديته، وتنوّعه الإبداعي.. شاعراً، روائياً، ناقداً، مترجماً، مهتماً بالفن التشكيلي والموسيقا، والجماليات العالمية الرفيعة؟
خرج من فلسطين في عام 1948 إلى بغداد، وهناك كان نقطة جذب أدبي وفكري، في مجتمع ثقافي عراقي من الصعب لقادم من خارج العراق أن يتمركز فيه، ويصبح أكثر من ذلك ضميراً ثقافياً تحترمه النخب العراقية وتدمجه سريعاً في روحها الترحابية الجميلة، وبالطبع تعود هذه الروح في بهائها وإشراقها الأدبي الثقافي إلى إرث كبير من الأدب والفنون والأساطير، وكان جبرا تشبّع مبكراً بهذا الإرث العراقي، واستوعبه جيداً. فهل لهذا السبب شد رحاله الفلسطيني إلى بلاد الرافدين، ولم يتموضع في مخيم أو في منفى صغير على الحواف الأرضية القريبة من فردوسه المفقود؟ هو الذي سوّى له فردوساً في العراق حتى أصبح عراقياً من أصول فلسطينية، أو فلسطينياً من أصول عراقية، وهي الثنائية الاجتماعية الفكرية التي يحب الكثير من المثقفين الفلسطينيين تبنّيها في خطابهم الروحي الداخلي؛ وذلك كلما ابتعدت فلسطين في الغياب الفردوسي التاريخي، وكلما اقترب هذا الغياب من فكرة الحضور.
تختلف الروحية الأدبية والفكرية لجبرا عن طبيعة إدوارد سعيد، أو محمود درويش، أو إحسان عباس، أو غسان كنفاني، وغير هؤلاء ممن أخذهم الرحيل بعيداً عن الفردوس، فهو بقي في قلب الاشتغال الثقافي الصرف، ولم يغرق في السياسة أو متطلباتها الوظيفية الآنية، فهل لهذا السبب، أم لأسباب أخرى ظل جبرا خارج اهتمام المؤسسة الثقافية الفلسطينية الرسمية، وحتى، للأسف خارج الفضاء الثقافي العام الذي يدرج نفسه خارج مما هو رسمي أو سياسي أو «منظماتي»، أي أولئك المستقلين أو ما يسمّون بالمستقلين في قلب بيئة ثقافية تحيط بها السياسة من كل جانب؟
كتب جبرا مجموعة من قصائد متحررة من الوزن في كتاب صغير بعنوان «متواليات شعرية»، بعضها للطيف وبعضها للجسد، كما جاء في عنوان فرعي للمجموعة التي قدّم لها الناقد والمترجم العراقي الكبير الدكتور عبد الواحد لؤلؤة. ومركز هذه المتواليات هو الحب أو فقد الحب متمثلاً في امرأة حوّلت جبرا المثقف الصارم البالغ الجدية إلى شاعر؛ لأن الحب أقوى من الموت، ولأن الحب كما يقول لؤلؤة «هو كل ما تبقى من الأحياء الذين ماتوا».
يقول جبرا في سردية الحب: «من أغوار الظلام جاءني الليل بها، وجهها كالشمس؛ إذ تتخفى وراء السحب.. ويداها ترسمان الزخارف في فضاءات الحلم». بهذا المعنى شبه الصوفيّ بأن الحب يفتت الحجر، وإذا حلّ في قلب رجل سقيم حوّله من توّه إلى شاب بكامل عافيته. وجبرا لم يكن سقيماً لأنه امتلأ بعافية الكتابة.
الكتابة بكل جداولها المائية الفضية كانت هي سرّ جبرا الذي هو أكثر من جبرا.. والأكثر أيضاً من فلسطيني؛ لأنه بنى سلطته الثقافية على ما هو إنساني عالمي كوني.. أولاً بالحب والحب «موت صغير» كما يقول ابن عربي.. والحب يصبح عذباً وقاسياً معاً عندما يبحث عن معناه الوجودي.. في الفراديس المفقودة.

y.abulouz@gmail.com

Original Article

زر الذهاب إلى الأعلى