قضايا ودراسات

في مفهوم «الثورة المضادة»

الحسين الزاوي
يعرف الحقل الفكري والسياسي العربي خلال السنوات القليلة الماضية، تعسفاً كبيراً في استثمار المصطلحات والمفاهيم التي جرى إبداعها في سياقات ثقافية وحضارية ذات خصوصيات تاريخية، لا يمكن إغفالها، أو القفز عليها، ويتميز هذا التوظيف المصطلحي، والمفاهيمي، بالكثير التسيب والشطط في أساليب وطرائق استخدام المفاهيم من دون مراعاة الضوابط المنهجية والمعرفية التي يترتب أخذها في الحسبان عند القيام باستدعاء هذه المفاهيم من أجل خدمة أجندات سياسية وأيديولوجية، لا علاقة لها البتة بدلالات ومضامين المفاهيم بالشكل الذي يبدو فيه اللفظ كأنه مستقل تماماً عن المعنى؛ وبالتالي فإن الذين يمارسون الدجل السياسي من أصحاب الفوضى المصطلحية يعملون على استباحة، وهتك عرض الألفاظ التقنية لمختلف الفروع المعرفية، بعيداً عن قوانين المعجمية المعاصرة التي تتعامل مع المفاهيم بناءً على نسقها التداولي المتعارف عليه لدى جمهور المتخصصين.
ويمكننا في هذه العجالة أن نكتفي بعرض نموذج مفهوم «الثورة المضادة» الذي قام دعاة الإسلام السياسي بالسطو عليه، وعملوا على استثماره من أجل الدفاع عن أطروحاتهم المتهافتة، حيث عمد الكثير من المفكرين وكتاب الأعمدة السياسية المحسوبين على هذا التيار، ومعهم بعض أجراء ليبرالية الواجهة، بوضع أنفسهم في خانة مفكري ومنظري ما سمي بالثورات العربية، وقاموا في المقابل بحشر خصومهم في زاوية المدافعين عما يصفونه بالثورة المضادة. ومن سخافات ومهازل هذا التيار تصنيفه لبعض شيوخ الفتنة ضمن قائمة مفكري الثورة، بموازاة قيامه بوضع مفكرين وشعراء ينتمون إلى الحداثة العربية المعاصرة في حلف المغضوب عليهم الذين اتهموا بدعم الثورة المضادة.
وإذا كان الاحترام الذي نكنه لرموز ولضحايا الحراك العربي الذي شهدته تونس ومصر في مطلع سنة 2011، يدفع البعض منا إلى التنازل في سياقات فكرية بعينها، عن الكثير من الضوابط المتعلقة باستخدام مفهوم الثورة، خاصة ما تعلق منه بشروط التراكم النظري والمعرفي الذي يسبق كل الحركات الثورية الكبرى في التاريخ؛ فإن إمعان أقطاب الإسلام السياسي في تشويه مفهوم الثورة المضادة، يفرض علينا تقديم جملة من الملاحظات المتعلقة بالخلفيات النظرية التي صاحبت نشأة وتطور المضامين المتعلقة بهذا المفهوم.
يجب التذكير بداية، بأن المفاهيم في مجملها ترتبط ارتباطاً وثيقا ببيئتها الأولى، وهي أشبه ما تكون بالكائن الحي الذي يفقد مكونات هويته عندما يغادر موطنه الأصلي، ويصدق ذلك بشكل أكبر على المفاهيم السياسية التي تمتلك بنية نظرية هشة، ويجري توظيفها في الكثير من الحالات بهدف التضليل، أو للترويج لمواقف إيديولوجية بعينها. كما أن ارتباط الخاص بالعام في مجال المفاهيم يخضع لمقومات وضوابط منهجية، ومن غير اللائق بالتالي، أن نقدم قراءة للحدث الخاص بشكل تعسفي من أجل إلحاقه بالإطار النظري العام خدمة لأهداف آنية تفضي إلى تشويه النسق النظري العام، لأنه لا يمكن – كما يقول أحد المفكرين- أن نؤلف «مفاهيم الواقع» بمعزل عن أسس «واقع المفاهيم»، وبالتالي فمن باب التدليس الفكري أن نقوم بإسقاط واقع الحدث الراهن على الواقع المتعلق بالنسق المفاهيمي الذي تشكل بناءً على شروط محددة مختلفة من حيث الزمان والمكان.
من الأهمية بمكان أن نذكر في هذا المقام، أن القراءات المتعلقة بنشأة مفهوم الثورة المضادة الذي يجب تمييزه هنا عن مفهوم معاداة الثورة، تشير بكل وضوح إلى وجود مقاربات متعددة للأحداث التاريخية المتصلة بولادة هذا المفهوم الإشكالي، يذهب بعضها إلى حد اتهام الجمهوريين في فرنسا بممارسة إبادة جماعية ضد الملكيين والكاثوليكيين خلال الحروب التي أعقبت قيام الثورة الفرنسية. ويقدم قاموس الثورة المضادة الذي أنجز بإشراف «جان كليمون مرتان»، الكثير من المعطيات التي تسمح بإجراء تقييم أكثر موضوعية للأحداث التي جرى وضعها في خانة الثورة المضادة، والشيء نفسه يمكن أن يقال عن القراءات التي تتعلق بالثورات الكبرى، مثل الثورة الروسية، والثورة الصينية. وسيكون من العبث أن نصف الآن، على سبيل المثال لا الحصر، التحولات التي جرت في الصين الوطنية، المعروفة حالياً بتايوان، بأنها جزء من الثورة المضادة في الصين، لأن الأحداث التاريخية تصل إلى درجة من التعقيد بحيث يكون من باب الاستهتار الفكري وضعها داخل قوالب جاهزة.
يمكن القول عطفاً على ما تقدم، إن الشطط الذي يقع فيه البعض عند توظيفهم لمفهوم الثورة المضادة يقودهم في أحايين كثيرة إلى إدراج التحولات الإيجابية الكبرى التي عرفتها مختلف الدول في خانة الثورة المضادة، لمجرد أنها لا تنسجم مع الرواية الرسمية التي يدافع عنها أصحاب مقولة الثورة، ويقومون بناءً عليها بتصنيف الأحداث بطريقة انتقائية تتعمد تشويه الأحداث خدمة لأجندات سياسية لا تمتلك الجرأة الكافية من أجل التعبير عن نفسها من خلال اعتماد الحد الأدنى من الصدق والوضوح. وعليه فعندما نقوم بربط الواقع العربي الراهن بكل تفاصيله المتشابكة، بكرونولوجيا نشأة مفهوم الثورة المضادة في بيئته الأصلية، نجد أن أغلبية القراءات تتفق على أن التيار الديني كان يمثل دائماً أحد العناصر المحورية في الحركات المرتبطة بالثورة المضادة في مختلف دول العالم؛ في اللحظة التي سعى فيها مثقفو وإعلاميو صالونات الدوحة، منذ بداية أحداث ما سمي ب«الربيع العربي» إلى وضع الإخوان وحركات الإسلام السياسي وغيرها من التيارات العتيقة والمحافظة، في معسكر الثوريين الذين يدّعون مواجهة أصحاب الثورة المضادة. لقد حدث، إذاً، استعمال واسع، ومتسيّب، واستغلال مفرط لهذا المفهوم، من دون أن يتزامن ذلك مع بذل جهد فكري يتعلق بإعادة صياغة تقنية للمفهوم أو بتحديد مسبق لمساحة ومجال الواقع السياسي الذي يراد أن يقوم مفهوم الثورة المضادة بتأطيره وتحديد سياقه النظري.

hzaoui63@yahoo.fr

Original Article

زر الذهاب إلى الأعلى