مقالات عامة

مأزق الخطوة التالية

عبدالله السناوي

هذا هو السؤال الأكثر جوهرية؛ بعد موقعة الجمعية العامة للأمم المتحدة، التي لقيت فيها الإدارة الأمريكية هزيمة سياسية موجعة على خلفية قرارها الاعتراف بالقدس المحتلة عاصمة لـ «إسرائيل»، والشروع في نقل سفارتها إليها.
رغم الأجواء المحمومة، والضغوط المعلنة وغير المعلنة، التي وصلت إلى حدود الترهيب والتهديد بصورة غير مسبوقة، فإن أغلبية كبيرة (128 دولة) رفضت القرار الأمريكي، أو المس بالوضع القانوني للمدينة المقدسة بالمخالفة للقوانين والقرارات الدولية.
كان ذلك تأكيداً من المجتمع الدولي على الحق الفلسطيني في مواجهة آلة الاحتلال «الإسرائيلي»، بقدر ما عكس عزلة الدبلوماسية الأمريكية، التي انتهجت أداء متعجرفاً وسوقياً لا يليق بدولة عظمى، كالتهديد بوقف المساعدات عن الدول التي تناهض قرارها وتمويل المنظمة الدولية كلها.
ما جرى له قيمته السياسية والقانونية والأخلاقية؛ لكن القرار غير ملزم، ومعركة القدس مفتوحة على سيناريوهات متناقضة.. فرص حقيقية ومنزلقات ماثلة.
أكثر السيناريوهات ترجيحاً، أن تواصل الولايات المتحدة ضغوطها؛ لمنع أي استثمار سياسي فلسطيني للقرار الأممي؛ كاكتساب العضوية الكاملة بالأمم المتحدة، تأكيداً بأنها دولة تحت الاحتلال تحظى بالاعتراف الدولي، أو ملاحقة جرائم الحرب «الإسرائيلية» أمام الجنائية الدولية.
يصعب أن تلتئم -مرة أخرى- على نفس درجة التماسك الجبهة الدولية، التي صاغت ذلك النصر الدبلوماسي، فالتباينات والتناقضات داخلها يجعل من الصعب الرهان عليها خارج رمزية القدس، التي لا يستطيع أحد في العالمين العربي والإسلامي تحديها، أو إنكارها.
إذا توقفت الانتفاضة الفلسطينية عند هذا الحد بدعوى أنها حققت أهدافها، فإنه استنتاج متعجل يسحب على الفور من فوق مائدة الحسابات الإقليمية والدولية أقوى أوراق الضغط والتعبئة وإلهام التماسك الواسع وراء أي تطوير دبلوماسي يستثمر في القرار الأممي.
كان أفضل ما في هذه الانتفاضة ما أظهرته صورها من بسالة المواطن الفلسطيني العادي في مواجهة آلة البطش «الإسرائيلية».
للصور قوتها في إلهام الضمير الإنساني، ورفع مستويات التضامن إلى ضغوط على دول وحكومات يصعب، ردها أو تجاهلها.
إنهاء الانتفاضة هزيمة مبكرة تسحب من القرار الأممي قوة زخمه في تطوير الهجوم على جبهات جديدة تضع الولايات المتحدة مجدداً في الزاوية.
وإذا لم تبد الفصائل الفلسطينية الرئيسية استعداداً أكثر جدية في ترتيب البيت من الداخل، وبناء تصورات مشتركة تضفي احتراماً وتعاطفاً، فإن أثر القرار الأممي قد يتبدد سريعاً.
فضلاً عن ذلك كله، فإن أية قراءة متأنية لخريطة التصويت في الجمعية العامة تكشف عن ثلاثة أمور لافتة:
الأول: أن الدول الأوروبية الرئيسية، التي أيدت القرار الأممي في مواجهة حليفها التقليدي الأمريكي، ترجع أسبابها إلى خشيتها من تفاقم أزمة القدس إلى حروب دينية تضر بأمنها واستقرارها ومصالحها في الشرق الأوسط، رغم ذلك حاولت ألا تتصدر المداولات، أو أن تصل المواجهة المباشرة مع الإدارة الأمريكية إلى تبادل الاتهامات المعلنة.
والثاني: أن عدداً لا يستهان به من الدول امتنعت عن التصويت (35 دولة)، وعدداً آخر (21 دولة) غابت عن الجلسة الطارئة للجمعية العامة.
لا الذين امتنعوا وافقوا على القرار الأمريكي والمداخلات التي أدلوا بها؛ لتعليل مواقفهم أدانت موضوعياً ذلك القرار؛ لكنها تجنبت الصدام معه؛ بحجة أن قراراً مضاداً قد يعرقل فرصة تسوية الصراع الفلسطيني – «الإسرائيلي».. ولا الآخرون رغبوا أن يكونوا طرفاً في تلك المواجهة فآثروا الغياب.
والثالث: أن الهزيمة الدبلوماسية للولايات المتحدة ممكنة، فهي ليست بالقوة، التي تجعل كلمتها قدراً نهائياً، كما أن إلحاق هزيمة مماثلة ب«إسرائيل» متاحة.
يكفي النظر إلى قائمة، الذين صوتوا ضد القرار الأممي الجديد (9 دول) هامشية لا يكاد يسمع بأسمائها أحد، باستثناء أمريكا و«إسرائيل». غير أن ذلك لا ينبغي أن ينسينا حقائق الموقف الراهن، وهشاشة الموقف العربي العام، ومدى قدرة الإدارة الأمريكية على الضغط؛ لمنع أي هجوم دبلوماسي فلسطيني مؤثر، يستثمر القرار الأممي أو ربما العمل من الآن؛ لإجهاض أية مفاعيل ممكنة لهذا القرار وإلغائه مستقبلاً، كما حدث مطلع تسعينات القرن الماضي، بإلغاء قرار للجمعية العامة، اعتبر الصهيونية عنصرية، مثل: الفاشية والأبارتاهيد؛ بعد ستة عشر عاماً من إصداره قرب منتصف السبعينات.
كان ذلك القرار الملغى نزعاً لأية شرعية عن «الدولة العبرية»؛ وتقويضاً لأية حجة تأسست عليها. لماذا وكيف جرى التراجع عن أهم قرار يناصر القضية الفلسطينية في تاريخها كله؟
لأن أصحاب القضية أنفسهم خذلوها، مصر الدولة العربية الأكبر والأهم خرجت من الصراع العربي – «الإسرائيلي» بصلح منفرد، ودول عربية أخرى هرعت للتطبيع السري، والقيادة الفلسطينية أخذت المنحى نفسه؛ بحثاً عن تسوية ما.
المندوب «الإسرائيلي» في الأمم المتحدة، أشار بعنصرية مفرطة من فوق منصة الجمعية العامة إلى أن القرار الجديد سوف يلقى المصير نفسه في «مزبلة التاريخ»!. على نفس المنوال، وصف رئيسه «بنيامين نتنياهو»، الأمم المتحدة كلها، بأنها «بيت الأكاذيب»، كما لم تتورع المندوبة الأمريكية «نيكي هايلي» عن إهانتها.
إذا لم نثبت هذه المرة أننا جديرون بتحمل مسؤولية مثل هذه القرارات التاريخية، فإن كل معنى يتقوض، وكل رهان يضيع.

Original Article

زر الذهاب إلى الأعلى