قضايا ودراسات

ما ورائيات فعل كان

عبداللطيف الزبيدي

لبس يسري سريان القانون. سوء فهم خلط النظريّة بالتطبيق. المبحث قوله تعالى: «كنتم خير أمّة أخرجت للناس» (آل عمران 110). هل يمكن أن يصدر عن الخالق رأي مطلق في أمّة، أيّاً كانت الأمّة، بلا قيد أو شرط؟ هكذا ببساطة: إن الشعوب التي اعتنقت الإسلام، هي خير أمّة في البشريّة جمعاء، صكّاً أبديّاً بلا كيف ولماذا، لها أن تتخلف وأن يتطرف من يشاء منها، ستظل خير أمّة.
الأقرب إلى الحكمة الإلهيّة المنزّهة عن الانتقاء التفضيليّ المطلق، هو أن بداية الآية تنظير ونظريّة (ثيوري)، مضمونها أن الأمّة التي تطبّق منظومة التعاليم القرآنيّة، بمقاصد عباداتها، لا بأشكال الفرائض ومظاهرها دون مضامينها وأبعادها البعيدة، وتشيّد صروح البحث العلميّ لإدراك أسرار خلق الكون والحياة، وارتياد آفاق العلوم التي هي اللبنات والقوى الممثلة لأدوات الإبداع الأكبر، وتقيم العدل في تسيير شؤون المجتمعات، وتنشر قيم التسامح بين أفراد أسرة الإنسانية، وتنشد السلام بالحق، تلك الأمّة تكون خير أمّة.
فعل «كنتم» من الكينونة، فمعناه «إنكم»، شريطة أن تحققوا الشروط المذكورة سابقاً. يأخذ القلم على اللغويين القدامى أنهم ابتدعوا عبارة «كان الاستمرارية» (وكان الله غفوراً رحيماً)، وهو سوء فهم لمعنى كان في أصل اللغة، ما يجعلنا نشك في صحة تعريفها بأنها فعل ماض ناقص. كيف حدث هذا التحوّل ومتى؟ هذا مبحث آخر، على أهل المعجم التاريخيّ التنقيب عن الجذور. هذا الفعل موجود في الآرامية «كان» بمعنى: وُجد، صار، أبدع، خلق (التكوين، الكون)، قدَر واستطاع (تأمّل «كان» الإنجليزية!)، ومنه «مَكنوت» الإمكانيّة. طال الاستطراد.
السؤال: ما هي مخاطر سوء تقدير فحوى الآية؟ ذلك يؤدّي إلى توهّم أن مجرّد الانتماء إلى الأمّة الإسلاميّة يُكسب صاحبه هويّة تفضيليّة مجانيّة، وهذا محال وإساءة بيّنة إلى الكتاب. ما قيمة الإنجازات التنمويّة والتقدم بفضل جهود البحث العلميّ والصناعات والتقانة إذاً؟ كيف يُعقل أن تكون خيرُ أمّة لا تستلهم شيئاً ولا نصيب لها من أعظم صفتين من صفات الله، وهما العليم والقدير؟ أين العلم والعلوم والمعارف والقدرة والاقتدار والتقدير؟ الأمانة تحتاج إلى علم ومقدرة.
من الضروريّ فهم عبارة «الاقتصاد في الاعتقاد» فهماً يليق بعصرنا، وذلك بعدم حصر الهويّة الدينيّة في أداء الفرائض، فهذه وحدها لا تكفي لاستحقاق صفة تفضيليّة تجعل الأمّة خير أمّة. للأسف، لا يستقيم في عقل أن تحظى الأمّة بهذه المكانة، وهي في آخر القائمة مدنيّاً وحضاريّاً. أمّا الأمانيّ المجانيّة فلا جناح عليها إن لم تقتل الإرادة.
لزوم ما يلزم: النتيجة النحويّة: كانت «كان» فعل ماضٍ ناقصاً، فجعلناها فعل حاضر ناقصاً، وفعل مستقبل منقوصاً.

abuzzabaed@gmail.com

Original Article

زر الذهاب إلى الأعلى