قضايا ودراسات

ومضة الأقصى

محمد نور الدين
انتصر الشعب الفلسطيني، خصوصاً المقدسي، عندما فرض على العدو «الإسرائيلي» إزالة الحواجز المعدنية التي تفتش إلكترونيا الداخلين إلى المسجد الأقصى لأداء الصلاة.
أزال العدو حواجزه المعدنية، وأراد أن يثبّت بدلاً منها كاميرات مراقبة يصفها بالذكية على أساس أنها تستطيع أن تعثر على من يمكن أن يكون مسلحاً.
الدافع «الإسرائيلي» هذا جاء في إثر عملية فلسطينية بطولية استشهد خلالها ثلاثة شبان فلسطينيين من آل الجبابرة، بعدما نجحوا في قتل جنديين «إسرائيليين».
لكن المعركة لم تقف عند هذا المستوى. فقد أراد العدو أن يحولها إلى معركة يكسر فيها روح المقاومة، والسيادة، والاستقلال عند الفلسطينيين، بل إضفاء الشرعية على احتلاله الأماكن المقدسة، والقدس الشرقية.
ولم يبخل الفلسطيني بأن حوّل المعركة بدوره إلى معركة فرض إرادات، وهي جوهر المعركة ضد العدو. ودائماً كانت المعارك غير متكافئة بين أمتنا العربية والإسلامية، وبين قوى الخارج الاستعمارية. الاستعمار كان يملك كل الترسانة العسكرية، ومقومات الانتصار المادية علينا، وكنا مستعمَرين، ومحرومين، ومضطَهدين، لكن الإيمان بأحقية القضية، وبأن الإرادة تصنع الانتصار هي التي حتّمت مقاومة المستعمر على مر التاريخ الحديث، فكانت ثورة عمر المختار ضد الاستعمار الإيطالي، وكانت ثورة سلطان باشا الأطرش ضد الاستعمار الفرنسي، وكانت ثورة المليون شهيد الجزائرية، وأحمد عرابي المصرية.
لكن ثورة فلسطين التي بدأت حتى قبل قيام الكيان الصهيوني، كانت الثورة الأصعب، والأطول، والأكثر تضحية. ثورة بدأت قبل أكثر من مئة عام. وكانت ثورة مزدوجة: ضد المستعمر الإنجليزي، ومن ثم ضد المستوطن اليهودي وعصاباته من قبل أن تولد دولتهم المغتصبة.
وازدادت الثورة توهجاً مع ترسيخ ما يسمى بالمجتمع الدولي الكيان الغاصب. فكان على هذه الثورة أن تصارع العدو، وكل من وراءه من قوى عاتية في الغرب والشرق.
وخسر الفلسطينيون أراضيهم متراً متراً. من أراضي 1948 إلى أراضي 1967، وما أمكن تحريره في غزة هو الآن تحت الحصار. لم يعرف الفلسطيني طعم الراحة والهدوء يوماً. كانت حياته مآسي تفتح على مآسٍ.
ويستغرب المرء كيف يمكن أن يجد هذا الفلسطيني، الجزء من أمة عربية ذات تاريخ حافل بالنضال وتعدادها أكثر من 350 مليون نسمة، نفسه وحيداً وسط هذا التكالب الخارجي عليه. لكن مع ذلك نراه لا يكل، ولا يمل. قد يتعب لحظة أو يوماً لكنه لا يرمي مشعل المقاومة.
ليس من وقت للتحليل. فلن ينفع اليوم في ظل انشغال العرب بأزماتهم، وفي ظل الانقسام الفلسطيني الحاصل، أن نتحدث عن الظروف الموضوعية، أوالذاتية، ولا عن مكامن القوة لدى العدو، ومكامن الضعف لدى العرب، ولا عن صراعات المصالح وتناحر الاستراتيجيات.
لقد ملّ العربي، الفلسطيني وغير الفلسطيني، من التنظير لكيفية تحرير فلسطين، هل بالسلاح والمقاومة، أو بالتطبيع الكامل، أو بإقامة دولة فلسطينية منزوعة السلاح (وطبعاً الإرادة)، أو بأن يكون الفلسطينيون جزءاً من دولة الكيان الغاصب، أو ربما تذويبهم هوية، أو وجوداً مادياً.
لم يعد يجدي كل هذا الكلام. لقد أمات العرب قضيتهم المركزية، ولم يبق للفلسطينيين ظهر يحميهم، ويسندهم، ويقيهم طعنات خناجر العدو، والزمن المرّ. غابت المؤسسات الحامية، أو المظلّلة. تظاهر البعض في بعض المدن العربية والإسلامية. لكن كم هو الفرق بين ما كان يحدث سابقاً من تظاهرات لجموع مليونية وبين ما يحدث اليوم.
على الجميع أن يعترف بأننا، نحن العرب، في أسوأ مرحلة عرفها تاريخنا الحديث، رغم أننا نظرياً مستقلون، فيما ضحى أجدادنا للتحرر، والاستقلال لم نحافظ عليه كما لم يحافظ أبو عبدالله الصغير على إمارة الأندلس.
في حلكة الظلام يشعل المقدسيون تحديداً، ومضة في ليلنا الطويل، ومضة تعادل إرادة أمة، وتطلق رسالة بأن الأمل لا يزال قائماً. المهم ألا ينطفئ الأمل. وهذا أضعف الإيمان.Original Article

زر الذهاب إلى الأعلى