قضايا ودراسات

أسئلة استشكالية ثقافية في مواجهة الإرهاب

د. يوسف الحسن

علينا كنخب مثقفة، كأدباء وكتاب ومبدعين، مواصلة المواجهة، مع هذا الفكر المتطرف والهدّام، والإسهام الجاد، في بناء ثقافة نقدية، تؤصل لقيم الإبداع والتنوير وتنمية الوعي بالحقوق والواجبات
كيف يمكن للثقافة العربية الراهنة ممارسة سلطتها في مواجهة الإرهاب؟
للإجابة عن هذا السؤال، نحتاج في البداية، إلى تشخيص حال «الثقافة الراهنة»، التي نتطلع إلى دورها في مواجهة التكفير والإرهاب، كما نحتاج إلى فحص السياسات الثقافية للدولة العربية، والمجتمع المدني، لمعرفة إمكانياتها وآلياتها ونتاجها الفني والفكري والتربوي والإبداعي، وقياس مدى فعالية دورها في تحقيق هذا الهدف، ومواجهة الإرهاب في الوعي والمجتمع في آن.
هل لدينا «ثقافة نقدية»؟ ثقافة حية وجادة، تؤثر إيجابياً في الوعي الفردي، وتعمل على تهذيبه، وتحفز الإبداع والانفتاح والحوار والتنوير، والمشاركة والمسؤولية المجتمعية، وتنشر صناعة الفرح، وقيم التسامح، وتنبذ الكراهية والعنف؟..
أم أن هذه الثقافة السائدة، هي «ثقافة راكدة» متراجعة، وغالباً ما تدفع الوعي الفردي، في الاتجاهات السلبية والانغلاق، وتشوش الرؤية إلى الذات، وإلى الآخر؟ ومن مظاهرها أيضاً، اضطراب المفاهيم، واختلال الحس بالمسؤولية تجاه المجتمع.
ثقافة تائهة تنفجر من داخلها عند أول منعطف، تطرفاً وهويات صغرى، مذهبية وطائفية وعرقية وقبلية..إلخ. تتحالف مع (ديكتاتور) أو (إمبريالي ) في مكان، وتشتمه في مكان آخر.
ثقافة فصّلت لبوساً مقاوماً ووطنياً ومذهبياً، لتيارات إسلاموية عنيفة، وفقاً لأهواء ومنافع عابرة، إلى غير ذلك من «الأصناف» الثقافية المضطربة.
وللحق، فإن هناك نزراً يسيراً من أهل الثقافة، ممن رحم ربك، قد احتفظ بمرجعية ثقافية نقدية، لكن حضوره في حركة المجتمع، وفيما تواجهه أمتنا من كرب وفتنة وتمزق، هو حضور ضعيف، (إمّا مركون على الرف، أو في برج عاجي، ينام ملء جفونه، عن شواردها، أو يكتفي بالنواح).
قد تتعدد الرؤى تجاه ماهية الثقافة الراهنة، وتجاه أسباب الهبوط، وتراجع الرأي النقدي، وغياب الجيل التنويري، لكن في مواجهة الوقائع التراجيدية، التي تحاصر حاضرنا ومستقبلنا، يمكننا أن نجد كوة للأمل، وأجوبة لهذه الأسئلة القلقة.
حاجتنا ماسة، لاجتراح سياسات واستراتيجيات ثقافية وفكرية وتربوية، لصد الإرهاب ومواجهته في الوعي وفي المجتمع.
لا تكفي سياسات «الاستئصال الأمني»، التي لم تنجح في إنهاء الإرهاب والتكفير في أفغانستان وباكستان والجزائر والصومال ومصر… إلخ.
إن مواجهة الإرهاب الراهن وما بعده، تحتاج إلى سياسات ثقافية جديدة، تتجاوب مع مستجدات اللحظة الراهنة، وتعي الضرورة والأولويات، وتدرك المتغيرات، وتفهم جذور الإرهاب وخطابه وآلياته، ودوافعه وتغذيته الفكرية والمالية واللوجستية.
لم يهبط الإرهاب والتوحش والتكفير، بالمظلات من كوكب آخر، بل تناسل عبر عقود، وجاء ما سمي ب«الربيع العربي»، ليوفر البيئة المناسبة للعنف المسلح، ويسهّل الاختراق الخارجي للأمن الوطني والقومي، مستمداً التأثير والفعالية من نموذج «التكبير» على الجهاد في كابول، مطلع العام 1980، وصعود تيارات سياسية إسلاموية، تسعى للاستيلاء على إدارة الشأن العام بالعنف المسلح، والإقصاء وتفتيت الأوطان.
الاستراتيجية الثقافية لمواجهة الإرهاب، تحتاج إلى برامج مستدامة، من بينها:
* إشاعة وترسيخ قيم العقل والحوار والسلم المجتمعي. والعيش المشترك.
* نشر صناعة الفرح والمسرة، وثقافة احترام الآخر المغاير، والتفكير الإيجابي، ونبذ التعصب والكراهية
* مواجهة الخطاب الوحشي والتكفيري، الذي استخدم وسائل التواصل الاجتماعي، للترويج لصورته الذهنية، والتي تساعده على التجنيد ومد النفوذ.
* وهناك آليات ثقافية عديدة لهذه المواجهة من بينها قيام الكاتب والفنان والمخرج والمغني والرسام، والروائي والمبدع وغيرهم، باجتراح أعمال فنية تعزز الثقة بالانتصار على الإرهاب، وتحجّم الخوف منه، وتسخر من الخطاب الإرهابي، ومن ذهنية الإرهابيين، وتحطّم الروح المعنوية للتنظيمات الإرهابية العابرة للحدود.
* أدوار مهمة يمكن أن يقوم بها، الإنتاج السينمائي، الأغاني، الكاريكاتور، التشكيلي، المعلم، والمناهج التربوية التي تربي الإحساس بالإنسانية المشتركة، وبالمسؤولية المجتمعية، هذه مجرد أمثلة، على أدوار للثقافة التنويرية، في مواجهة الإرهاب.
وتتطلب «ثقافة المواجهة» أيضاً، إصلاح وتطوير المؤسسات الثقافية والتربوية والدينية، ومعالجة تنمية مشوهة، منزوعة الثقافة، في كثير من الدول العربية، فضلاً عن الحاجة الماسة لمعالجة القصور في بنية وبرامج التنمية السياسية الوطنية، وغياب المشروع الثقافي النهضوي الوطني، القادر على ملء الفراغ، وتقديم البديل لكل المشاريع الظلامية والطائفية.
ومن المؤكد، أن المنظمات الإرهابية، ستخسر الحرب، وسيندحر «داعش والنصرة وأخواتهما»، لكن هل سيلقي الإرهاب سلاحه الفكري والثقافي؟ أم أنه سيواصل تسلله، إلى منظوماتنا التعليمية، ووسائل التواصل الاجتماعي، واللعب في «الفراغات» السياسية والتربوية والإعلامية، بخاصة إذا ما توفرت له «حاضنات» مالية وتنظيمات إسلاموية، وأجندات سوداء، لدول مارقة أو مراهقة أو غير مسؤولة؟
* من هنا، علينا كنخب مثقفة، كأدباء وكتاب ومبدعين، مواصلة المواجهة، مع هذا الفكر المتطرف والهدّام، والإسهام الجاد، في بناء ثقافة نقدية، تؤصل لقيم الإبداع والتنوير وتنمية الوعي بالحقوق والواجبات، والمواطنة، ونشر ثقافة الاعتدال والرحمة وعمران الأرض، واحترام التنوع وكرامة الإنسان.
وأختم بطرح عدد آخر من التساؤلات الاستشكالية، للتفكر والحوار فيها:
(١) هل التناول الصحيح لقضية الفكر الإرهابي، هو مجرد الشروع في عملية تجديد أو إصلاح الخطاب الديني؟ (حينما حاول الإمام محمد عبده، والأفغاني، التجديد والإصلاح، لم يكن هناك ثمة إرهاب)، التجديد أو الإصلاح، مطلوب بإلحاح، سواء كان هناك إرهاب، أو لم يكن.
(٢) هل لدينا سياسات ثقافية لهزيمة البنية الفكرية والثقافية للإرهاب، في مرحلة ما بعد داعش وأخواته، وأمثاله من قوى إسلاموية وجهادية، متعطشة للسلطة وللثأر، إضافة لقوى توفر الملاذ والإعلام والدعم، لهذه القوى المتطرفة؟
(٣) ما دورنا كأهل ثقافة وقلم وإبداع، في مواجهة سياسات وثقافة وخطاب «يسيّس الدين، وتديين السياسة»؟ ألم يتدثر بعضنا بالدّين، في عقود مضت؟ وتملق بعضنا إسلامويين، من خلال الادعاء بأن خطابنا، يشتق شرعيته من الدين؟ فجاءت جماعات إسلاموية منظمة، لتحاربنا بنفس المنطق، وتقول؛ إن فكرنا أو خطابنا عار من أي شرعية دينية، وإننا علمانيون وليبراليون وقومجيون. بل وكفار أحياناً.
اختطف الدين والمذهب، وتحولا إلى عنصر فتنة وكراهية وعداء للإنسان والكون، عوض أن يبقى على أصله، شريكاً في بناء الكون وعمارته، وعامل رحمة للعالمين، وحماية للنفس والنسل والعقل والمال.
(٤) كيف نفسر وجود نحو سبعة آلاف تونسي داعشي، يحاربون في سوريا والعراق، من بلد تعداده عشرة ملايين نسمة ليكون عدد الدواعش التوانسة، أكثر من عشرين ضعفاً، من عدد الدواعش القادمين من مصر، (تسعون مليون نسمة من السكان)، أما الجزائر، بسكانها (ثلاثون مليوناً) فمساهمتها أقل من ثلث عدد التونسيين الدواعش، رغم أن تونس، لديها مؤشرات تعليم عالية، وطبقة متوسطة، وخبرات جهادييها، أقل من خبرات جهاديي مصر والجزائر، وهناك تجربة بورقيبة الحداثية، وهناك حركة النهضة «الموصوفة بالإسلام المعتدل!»…. إلخ.
(٥) كيف نفسر، عدم التحاق أي مسلم هندي، من بين أكثر من مائتي مليون مسلم في الهند بأي من التنظيمات الإرهابية؟
(٦) ما هي إمكانية إقامة جبهة عربية واسعة من المثقفين والمبدعين، القادرين على تحويل الفعل الثقافي، إلى قوة تغيير ووعي، لحماية المجتمع والعقل والدين والأوطان من الإرهاب، ولتعزيز ثقافة الحوار والتسامح والسلم المجتمعي والمواطنة وثقافة الحياة واحترام التنوع وكرامة الإنسان. ثقافة قادرة على المساءلة والنقد والإبداع والتفكير العلمي، وغرس الذائقة الفنية في العملية التعليمية.
نحن بحاجة لطرح مثل هذه الأسئلة الاستشكالية، للحوار والمناقشة، ولا نسعى للأجوبة الجاهزة، بل نعتقد أن السؤال وفرضياته، هو أساس المعرفة، وأن تاريخ الفكر الإنساني، هو تاريخ السؤال عن المعنى، وفي المعنى.
ما قيمة المثقف والمبدع والأديب، في هذه الأزمنة الوحشية، إذا لم ينشروا صناعة الفرح والأمل، والتنوير، وإذا لم يدافعوا عن كل ما هو نبيل وإنساني، وإذا لم يقاوموا الفساد والإفساد والبغاة، وإذا لم يسهموا في تأسيس عالم ينبذ الكراهية والتعصب والتمييز، ويطارد هذه الشرور، في الأماكن المعتمة من النفس البشرية، قبل أن يواجهوها في السياسة والحرب.

Original Article

زر الذهاب إلى الأعلى