قضايا ودراسات

أطفال في السبعين!

خيري منصور

الطفل فينا لا يموت لكنه يهجع أو يغفو لبعض الوقت، وسرعان ما توقظه رائحة ما ترشح من الذاكرة، أو يحييه صدى صوت عميق قادم من الطفولة، وهناك روائيون كتبوا آلاف الكلمات لمجرد أن شيئاً ما أثار لديهم ذكريات الصبا، ورواية مارسيل بروست الشهيرة التي تصنف كواحدة من أهم روايات القرن الماضي، كانت ثمرة للحظة عجيبة بحيث أثارت نكهة قطعة حلوى في ذاكرة المؤلف زمناً مفقوداً، راح يبحث عنه فيما تبقى له من عمر. ونحن الآباء وربما الأجداد الذين تصورنا بأننا غادرنا طفولتنا بلا رجعة، يكفي أحياناً ما نسمعه في فجر العيد من تكبير في المساجد المجاورة لبيوتنا كي نعود أكثر من نصف قرن إلى الوراء، ونستذكر البهجة التي كانت تغمرنا لمجرد ارتداء قميص جديد، أو حذاء لم تقضمه الطرقات!
وقد تمنعنا المكابرة وادعاء الحكمة والبلوغ من الاعتراف بما يفعله الطفل الهاجع تحت جلودنا، والفارق بين البالغ والطفل، أن البالغ يتقن الكلام، فإذا شعر بالبرد اشتكى بلسانه أما الطفل فإن جسده يتولى المهمة، إذ يكفي أن يرتجف لينوب عن اللغات كلها، وربما لهذا السبب قال الشاعر حمزاتوف في مذكراته إنه تعلم اللثغ بالكلام، وهو في سن الثالثة، لكنه احتاج إلى ستين عاماً كي يتقن الصمت!
إن من مات فيهم الطفل أو قاموا هم أنفسهم بوأده، يفقدون أثمن ما في الآدمي وهو براءته وصدقه، والاعتراف بلحظة ضعفه وبأخطائه.
لكن من تأخذهم عزة البلوغ بالإثم، ويخبئون الطفل الذي في داخلهم كي لا تفتضح وقارهم ضحكته أو بكاؤه، هم أناس خلعوا قلوبهم كأحذية بالية، وودعوا أبهى ما في الإنسان من بكارة وقدرة على الاندهاش!
أشياء كثيرة تعيدنا رغماً عنا عقوداً إلى الوراء، لأنها قرائن مصاحبة لفترات من العمر، الرائحة، سواء رشحت من تفاحة أو من التراب بعد المطر الأول، توقظ طفولتنا، وصوت التكبير في فجر العيد يمحو تجاعيد وجوهنا ويعيد اللون الأسود لشعرنا!
والصدى الشجي لصوت حنون قادم من بعيد، يوشك أن يعيدنا إلى أمهاتنا أو يعيدهن إلينا! فنحن أحياناً أطفال في الستين أو السبعين!

Original Article

زر الذهاب إلى الأعلى