قضايا ودراسات

ألمانيا الغامضة

فيصل عابدون

يمثل عنوان هذا العمود تلخيصاً للمخاوف الأمريكية من نهوض محتمل لألمانيا بدأت بوادره تلوح فعلياً بعد نهاية الحرب الباردة وإعادة توحيد ألمانيا وتلاشي قوانين المنتصر التي فرضت عليها من أجل كبح أي عمليات بناء لقدراتها العسكرية من جديد. وهو مستوحى من كتاب الرئيس الأمريكي الأسبق ريتشارد نيكسون «أمريكا والفرصة التاريخية»، الذي حاول فيه توضيح التهديدات المحتملة ورسم السياسات الاستراتيجية لأمريكا دولة عظمى وحيدة في عالم ما بعد زوال الدولة السوفييتية.
ويقول نيكسون إن ألمانيا يمكن أن تصبح حليفاً دائماً ولا تشكل منافساً خطراً، خاصة بعد مرور أربعين عاماً من الديمقراطية والشراكة مع المؤسسات الغربية بعد سقوط الحكم النازي. لكنه يبدي قلقاً من إمكانية انبعاث جديد للمشاعر القومية التي حفزت ظهور التيار الهتلري على مسرح السياسة والسلطة وتطلعاته التوسعية التي قادت للحرب الكونية. كما أنه يحذر من التقليد الألماني الذي يقضي بأن تضع ألمانيا رجلاً في الغرب وأخرى في الشرق. وهو يقصد هنا بالتحديد إمكانية التحالف الألماني مع روسيا بعد تلاشي قوانين الحرب التي كانت تكبلها.
مثل هذه المخاوف والتحذيرات التي أطلقها الرئيس الأمريكي الأسبق تلوح اليوم وكأنها أقرب للتحقق، فألمانيا باتت تلح على لعب دور حقيقي على ساحة السياسة الدولية وهي ترسخ قيادتها في الاتحاد الأوروبي بمؤسساته السياسية والعسكرية وتتحين الفرص لإظهار دورها كمنافس للقطبية الأحادية الأمريكية بأكثر بكثير من ظهورها كحليف وشريك أصغر لسياسات واشنطن واستراتيجيتها الدولية.
إن الأزمات الكبرى التي عصفت بمنطقتنا العربية كانت بؤرة النشاط الدبلوماسي والعسكري الدولي وباتت تتراجع شيئاً فشيئاً وتفقد زخمها مع بدء هزيمة تنظيم «داعش» وتوابعه المحركة. وهذا التطور من شأنه أن ينقل الاهتمام إلى مناطق نزاعات أخرى كبيرة ومهددة لكنها خامدة، وإلى تسابق سياسي وعسكري إلى مناطق النزاعات الجديدة خصوصاً في منطقة المحيط الهادي التي تضم روسيا والصين واليابان والكوريتين وفيتنام.
واليوم وبعد عملية «البريكست» المفاجئة وابتعاد حليفتها التاريخية عن سفينة التكتل الأوروبي أصبح موقف الولايات المتحدة ملتبساً. فالخروج البريطاني عزز موقع ألمانيا أكثر فأكثر في مركز القيادة الأوروبية وهي تتحول ببطء إلى لاعب رئيسي يبحث عن دوره المكافئ لحجمه وقوته وتطلعاته وإلى تغيير قواعد اللعبة السائدة.
خلال المرحلة الماضية قرعت ألمانيا طبول الحرب التجارية وأوضحت وجهات نظرها بشكل لا لبس فيه حول التوجهات الأمريكية لإجبارها على إلغاء نظام الحماية على منتجاتها الصناعية والزراعية. وبينما هددت الولايات المتحدة بمقاطعة البضائع الألمانية وإعلانها خطراً على الأمن القومي الأمريكي، قالت ألمانيا إن الخطوة الأمريكية ستقابل برد دفاعي ألماني يحول جميع الأطراف إلى خاسرين.

shiraz982003@yahoo.com

Original Article

زر الذهاب إلى الأعلى