قضايا ودراسات

أين وصلت «الفوضى الخلاقة»؟

في عام 2005، أي بعد عامين من احتلال قوات بلادها للعراق، أدلت كونداليزا رايس وزيرة الخارجية الأمريكية في إدارة الرئيس الأسبق جورج دبليو بوش، بتصريح لصحيفة «واشنطن بوست»، قالت فيه إن بلادها تسعى إلى «إشاعة الديمقراطية في الشرق الأوسط، وبناء شرق أوسط جديد، من خلال الفوضى الخلاقة»، وقد أصبح مصطلح «الفوضى الخلاقة» منذ ذلك الحين ناظماً رئيساً في رؤية السياسات الأمريكية تجاه المنطقة. ومع أن المصطلح بحد ذاته لم يكن جديداً في الأدبيات السياسية، فقد استخدمه للمرة الأولى المؤرخ الأمريكي تاير ماهان في عام 1902، إلا أن استخدامه بعد أحداث سبتمبر/ أيلول 2001، وما تلاها من أحداث، أعطى المصطلح بعداً عملياً مباشراً، بل إنه أصبح فعلياً مؤشراً على السلوك الأمريكي في منطقتنا، وبغض النظر عمن يقود الإدارة الأمريكية.
ولقد أثار مصطلح «الفوضى الخلاقة» من قبل إدارة بوش الابن سجالاً واسعاً في دوائر صناعة السياسات في الشرق الوسط، خصوصاً أن سقوط نظام صدام حسين، واحتلال أمريكا للعراق، دفع حكومات المنطقة نحو إعادة التفكير بالمستقبل، انطلاقاً من المخاوف العديدة الناجمة عن الاندفاعة الأمريكية إلى تغيير منظومة الأمن والاستقرار في المنطقة، عبر دفع المنطقة إلى الفوضى، وتدمير القديم، لإتاحة الفرصة نحو بزوغ الجديد، القائم على «الديمقراطية»، من وجهة النظر الأمريكية، والتي عبّرت عن نفسها، بشكلٍ فعلي، عبر نزوع تجريبي في السياسة، لا يأخذ بالحسبان، ما يمكن أن تنتجه تلك الفوضى من احتمالات ونتائج لا يمكن ضبطها، أو توقع ارتداداتها، حتى على المصالح الأمريكية نفسها.
في عام 2003، كانت الولايات المتحدة مطمئنة إلى عدم وجود منافسة دولية لها، خصوصاً أن روسيا، وريثة الاتحاد السوفييتي السابق، كانت في طور العمل على التعافي من آثار انهيار المنظومة الاشتراكية، وتسعى إلى تمتين اقتصادها الداخلي، وضبط اللعبة السياسية الداخلية، وترتيب العلاقة بين المؤسسات الحاكمة فيها، وقد جعلت حالة الطمأنينة تلك الأمريكان يرفعون سقف التوقّع من سياساتهم، مفترضين ضمنياً أن دول المنطقة ستنصاع إلى مشروعهم، وأن إمكانية خلط الأوراق ستبقى محدودة الأثر على الأهداف النهائية التي وضعتها أمريكا.
في الساحة العراقية، حيث تواجدت القوات الأمريكية على الأرض، عملت حكومات عدة في المنطقة على خلط الأوراق، والاستفادة من حالة الاضطراب الموجودة، فعلى سبيل المثال، عملت طهران على تقوية نفوذها، عبر دعم قوى طائفية، بينما قام النظام السوري الخائف آنذاك من أن يطاله التغيير، على فتح حدوده مع العراق لمرور الإرهابيين، وخلال سنتين أو ثلاث، وجد الأمريكيون أنفسهم في العراق أمام تحديات لم تكن في الحسبان، فمن جهة تنامت الفصائل المدعومة إيرانياً، والتي قامت بعمليات ضد القوات الأمريكية، كما تنامت «القاعدة»، والتي دخلت على خط المواجهة مع الأمريكان من جهة، وعلى خط المواجهة مع الفصائل المدعومة إيرانياً من جهة.
لقد دفع الأمريكان في العراق ثمن تقديراتهم الخاطئة، فقد اضطروا للانسحاب في عام 2011، والقبول بنفوذ إيراني واسع فيها، مع توجه إدارة أوباما لعقد صفقة «الاتفاق النووي» مع إيران، وهو ما وجّه رسائل مباشرة إلى حكومات المنطقة، مضمونها أن أمريكا تتخلى عن حلفائها التقليديين، من دون أن يفكر صناع السياسات في واشنطن بتكلفة مثل هذا السلوك، وأثره على المنطقة من جهة، وعلى موقعهم فيها من جهة أخرى، وعلى عموم النظام الدولي، فقد سمح الخلل الناشئ في المنطقة بعودة روسيا للعب دور مهم، ووضع موطئ قدم لها عبر الملف السوري، وعودة الأحلام التركية بتوسيع النفوذ، عبر قوى الإسلام السياسي.
إن الفوضى الخلاقة التي أراد لها الأمريكان أن تكون بوابة للديمقراطية، أصبحت مساراً لتداعي منظومة الأمن والاستقرار، وتحوّل بعض دول المنطقة إلى دول فاشلة، وعودة الأحلام التوسعية لدول أخرى (روسيا، تركيا، إيران)، ونشوء جيل جديد من المنظمات الإرهابية، وتنامي حالة من الاستقطاب المذهبي واسع النطاق، وتبوؤ القوى العسكرية شبه النظامية مكانة مهمة في إدارة الصراع، وكلّ ذلك يجعل من الرؤية الأمريكية للتغيير في المنطقة رؤية تدميرية، ويجعل من المسعى الأمريكي نحو دمقرطة الشرق الأوسط مسعىً كارثياً.
إن «الفوضى الخلاقة» التي أرادها الأمريكان تمّ تحقيق الجزء الأول منها، وهو الفوضى، وأصبح من الواضح بأنها غير «خلاقة»، إذ إن بناء دول ديمقراطية يستوجب بالدرجة الأولى أن تبقى الدول نفسها موجودة، وأن يكون الصراع هو صراع من أجل منظومة القيم الديمقراطية، بينما ما حدث، ولا زال يحدث، هو تلاشي الدول، وعودة الصراعات ما قبل الوطنية، أو صراع الأمم، وكل ذلك يجعل من «الفوضى الخلاقة» مجرد مذهب تجريبي، دفعت المنطقة ثمنه، وكأن دولها مجرد كائنات في مختبر السياسات الأمريكية.

حسام ميرو
husammiro@gmail.com

Original Article

زر الذهاب إلى الأعلى