قضايا ودراسات

أيّ دورٍ للمثقفين القوميين في الإخفاق؟

ما أيسر أن توضع مسؤوليةُ ما أصاب الفكرة القومية العربية، وقضية الوحدة بالذات، من بالغ الأضرار على عاتق السياسيين من القوميين لمجرَّد أنهم هم مَن انتهى إليهم القيامُ العملي على أمور المسألة القومية، بعد أن قدَّم المفكرون والمثقفون الرؤى والموارد الفكرية التي يحتاج إليها العاملون في ميدان السياسة، وتحتاج إليها مؤسساتُهم الحزبية. والغالب على مَن يميل إلى مثل هذا التقدير، فيبرّئُ ساحةَ فريقٍ من المسؤولية، ويُلقي هذه على عاتق آخر، أن يَرْكن إلى فرضيةٍ تقول إنّ الفعالية الإنسانية، الاجتماعية والسياسية، لا تَصِحّ حالُها ولا تكون أصيلةً إلاّ متى طابقتِ الفكرةَ التي انطلقت منها، وحققتها في التطبيق المادي التحقيق الأمثل. والفرضيةُ هذه – وإنْ لم تُخطِئ قاعدة أنّ الأفكار تحتاج إلى حَمَلَةٍ اجتماعيين لكي تتحوّل إلى قاعدة مادية – تكتفي من نقد التراث القومي بنقد الممارسة حصراً، منزِّهةً الفكر عن أيّ مساءلة. وهذا نقدٌ منحاز إلى المثقفين (القوميين)، متحيِّف ضدّ الفاعلين السياسيين، ولا يرى من الصورة إلاَّ وجهاً واحداً، و بالتالي، فهو قاصر عن توفير مادّة رصينة لمراجعة تجربة العمل القومي في وجوهها وتجلياتها كافة.
ولكن ما أيسر، أكثر، أن يقع حصرُ المسؤولية في الأنظمة السياسية التي حكمت باسم الشرعية القومية، بدعوى أنها وحدها مَن أتيح له تطبيقُ سياسات لمصلحة الخيار القومي، لكنها أضاعت الإمكانية بل أساءت اغتنامها إساءةً ألحقت أضراراً بالقضية القومية وصورتها. ومع أنّ مسؤولية الأنظمة هذه مؤكّدة، وتشديدَ النقد على سياساتها فعلٌ مشروع تماماً، إلاّ أنّ اختزال النقد إلى هذه الحدود الأضيق، يُشعِر المرءَ منّا بأن وراء تحويل الأنظمة والنخب الحاكمة إلى كبش فداء غايةً هي التستّر على مسؤوليات النخب الثقافية والحزبية عمّا انتهت إليه أمور العمل القومي العربي.
لدى السياسيين القوميين – حزبيين وحكّاماً- الكثير الكثير مما يؤاخَذون عليه: على شعبويتِهم ولفظانيتِهم، كلاّنيتهم وإقصائِيَّتِهم للمخالفين، أخطائِهم في حقّ بعضهم؛ سياساتهم الخاطئة في مجال الحريات وحقوق الإنسان، ثقافتهم السياسية الضحلة وسوء استفادتهم من التراث الفكري القومي؛ تهميشهم للمثقفين وبُرمهم بأيّ نقدٍ ولو كان من أجل مصلحتهم، إلى أعطاب وظواهر أخرى يطول سردُها. ولكن، هل كان الفكر القومي، والخطاب القومي، خلواً من أيّ عوار؟ وهل كانت قضايا الأمّة، وفي قلبها قضية الوحدة، ستجد لنفسها حلاًّ ناجعاً لو أمكن لأفكار المثقفين القوميين ورؤاهم أن تجد طريقها إلى التطبيق؟ ثم، وهذا الأهمّ، هل كانت التجربة السياسية القومية – الحزبية والسلطوية – كلّها انحرافاً عن خطّ الفكر القومي أم هي وجدت بعض مسوّغاتها في ذلك الفكر؟ لا بدّ، إذن، ومن أجل أن تكتمل الصورة، من وضع الفكر والخطاب والمثقفين موضع نقد، للوقوف على ما كان لتلك وهؤلاء من حصّةٍ في المسؤولية عمّا جرى. ولسنا نعني بمسؤولية المثقفين، هنا، ما كان من مشايعة الكثيرين منهم للنظم القومية الحاكمة، أو صمتهم على سياساتها، وإنما ما كان لأفكارهم من أثرٍ في إنجاب نوعٍ من السياسة اعتنقها التيار القومي.
نشير هنا إلى مسألتين لم يُعِرهما الفكر القومي كبيرَ اهتمام وبالتالي، لم تتوفر للحركة القومية حولهما رؤًى تشتقّ منها سياسات عملية، الأمر الذي تَأَدَّى بها إلى سلوك تعرّجات سياسات تجريبية.
أولى المسألتين وأهمّهما أنه لم يلْحَظ من رابطٍ بين بناء الوحدة و(بين) تأهيل الدولة التي ستجسِّدُها بالقواعد السياسية الحديثة التي تجعل من نظامها السياسي نظاماً قائماً على الشرعية الديمقراطية. نجح، مثلاً، في الربط بين الوحدة والعدالة الاجتماعية (الاشتراكية) – وقد ذهبت الناصرية بذلك الربط إلى أبعد حدٍّ تسمح به المرحلة – ولكنّ شيئاً من ذلك (الربط) لم يحصل في المسألة الديمقراطية؛ فما كان يُنْظَر إلى دولة الوحدة إلاّ من زاوية كيانيتها الجامعة (الموحِّدة)، أمّا مضمونُها السياسي، وما إذا كانت دولةً وطنيةً حديثة قائمة على عقدٍ اجتماعي وعلى مبادئ المواطنة والحريات والتداول الديمقراطي على السلطة، فكانت خارج الأفق الذهني للحركة القومية.
والنتيجة أن الذين أقاموا نظمًا سياسية قومية، أقاموها على أساسٍ كُلاّني مغلق، وأحياناً على نحوٍ استبدادي؛ فلم يصادروا السلطة، فحسب، بل صادروا السياسة أيضاً !ومع أن المفكرين القوميين الكبار، من طراز ساطع الحصري وقسطنطين زريق، لم ينظِّروا يوماً لنموذج الدولة القائم والنظام التسلطي فيه، ولا نظّروا يوماً لنموذج نظام الحزب الواحد، ولا دعوا إليه، إلاّ أن مجرّد إمساكهم عن هندسة رؤيةٍ لنظامِ وحدةٍ ديمقراطي، ترك للنخب الحاكمة الباب لتطبيق النموذج الملائم لنوع تفكيرهم. وزاد الطين بلّة أن المنابت العسكرية لبعضٍ كبير من تلك النخب تركت آثارها في نوع النظام السياسي الجديد الذي أقامته.
وثاني المسألتين المهمَلَتين موضوع الاندماج الاجتماعي والنقض الحادّ الذي يعانيه في المجتمعات العربية، جرّاء هشاشة النسيج الاجتماعي وسيادة العلاقات الأهلية العصبوية، وضَعف روابط الولاء الأعلى للوطن والدولة. كان الاعتقاد السائد لدى معظم المثقفين القوميين (ما خلا ياسين الحافظ) أنّ فِعْلَ التوحيد القومي قمينٌ بمَحْوِ العلاقات العشائرية والقبلية والمناطقية والطائفية والمذهبية، وبرتق الفتوق الاجتماعية وتصنيع الشخصية القومية الموحَّدة. ولم يتنبهوا إلى أنّ وحدة (قومية أو وطنية) من دون مضمون ديمقراطي لا تكفل تعزيز سيرورة الاندماج الاجتماعي بالتلقاء.
وهكذا، قدّم الفكر القومي مساهمَتَه في إفقار التجربة السياسية القومية إمّا بصمته عن أمهات المسائل، التي عليها مدارُ التوحيد القومي، أو بأخطائه في مقاربتها وبناء رؤًى رصينةً حولها.

عبد الإله بلقزيز
hminnamed@yahoo.frOriginal Article

زر الذهاب إلى الأعلى