قضايا ودراسات

إقامة دائمة في القلب

يوسف أبولوز

هل يموت في الزمن شاعر مثل بابلو نيرودا؟ واسمه التشيلي الطويل.. ريكاردو أليسير نيفتالي رييس باسولاتو، ولكن خفة الشعر حولت اسم الأب والجد والجد الرابع إلى «نيرودا».. ويكفي أن تقول «نيرودا» ليرجع صدى الاسم. تشيلي لا نعرف أهم صادراتها، ولا اسم رئيس حكومتها.. وكم عدد سكانها.. «نيرودا» يختصر كل ذلك، وعندما فاز بجائزة نوبل في العام 1971 تحول استاد سانتياجو في بلاده إلى مكان شعبي بدا أكبر من تشيلي التي تمددت حدودها بالشعر، لتصبح قارة.
أسدل الستار على الدورة السادسة والثلاثين من معرض الشارقة الدولي للكتاب، ولكن لا يسدل الستار على الكتب. كل عام وأنتم بخير. وكل عام وأنتم على كتب وخزائن كتب. أصدقاء أمس لوحنا لهم بيد الوداع. وآخرون تركوا خطوط أياديهم بإهداءات سريعة، وبابلو نيرودا كان في المعرض.. «النشيد الشامل» له أضيف إلى الخزانة.. خزانة دولة الكتب.
نفتح الخزانات ونقرأ من نشيده الشامل جملة نيرودية بتوقيع أخضر.. يقول.. «ثمة من انتظرني بين الكمنجات»، لا تودع صديقاً بالدموع. ودعه بقصيدة. ضع يدك في يده. ضع يدك في يدها. وقل: سلاماً، سلاماً أيتها الكتابة. صباحاً صباحاً أيتها الكتابة. شتاء..شتاء أيتها الكتابة.
الكتابة ماء، وعافية، وتطهر.. عهد، وميثاق، ووعود. أبيض يستحم بالندى والعطر ويرتفع في الهواء. الكتابة درس وتعاليم ووصايا من جبران خليل جبران، والعقاد، وبورخيس، ودرويش، وأراغون، والجواهري، والبردوني، وأمل دنقل، ومؤنس الرزاز، ومحمد القيسي، وماركيز، وفدوى طوقان، ونازك الملائكة.. وإلى ما لا نهاية من هذا السطر العائلي الحنون.
في كل مكان هناك كتب لموتى، وكتب لأحياء. كتب المؤلفين الموتى -ربما- أكثر من كتب المؤلفين الأحياء بمعنى ما.. وقد تكون كتب المؤلفين الأحياء أكثر من كتب المؤلفين الموتى بمعنى ما أيضاً.. ولكن، يظل الأجمل، هو الدورة الزمنية «الدموية» «القلبية» «الشعورية» للكتب، وكل كتاب هو عنوان يدل على مكانة إقامة كاتبه.
قد لا نعرف أين يوجد قبر بابلو نيرودا، ولا نعرف أين مكان قبر لوركا أو المتنبي أو التوحيدي، أو البحتري.. ولكننا نعرف الطريق إلى بغداد، ودمشق، والقاهرة.. نعرف الطريق إلى الصين، وقرطبة ولشبونة.. وغيرها من مدن.. حيث هناك الكتب، وهناك الوراقون أفضل من يدل القارئ على مكان إقامة الكاتب. الإقامة الدائمة في القلب.
ومن خزنة نيرودا ما كان في قلبه.. «..من عينيك عبرت مثل أزهار متقافزة/ الرائحة القاتمة/ رائحة البهاء البحري المسروق/ وسقط في دمك فجر متكبر..».
في الحب وفي الكتب كان يقيم نيرودا. لم يكن في بلاده.. كان في العالم والأرض والكون. ولولا دودة القز تلك التي تنسج حرير الكتابة، لما عرفنا الطريق إلى الإقامة الدائمة في القلب.

y.abulouz@gmail.com

Original Article

زر الذهاب إلى الأعلى