قضايا ودراسات

اختزال المواقف

خيري منصور
ما من كاتب في أمريكا وربما في العالم انتقد بلاده بشكل لاذع كهنري ميلر، لكنه قال ذات يوم، إنه إن لم يكن أمريكياً، فهو ليس شيئاً على الإطلاق، وأضاف بأنه أمريكي جداً بنسبة مئة في المئة، وحين تترجم مواقف ميلر ولا ترد فيها العبارة الأخيرة يظهر كما لو أنه عدو جذري لوطنه، وهذا ما تفعله كل القراءات الانتقائية التي تخضع للنوايا والمراجعات الأيديولوجية وأخطر ما تقدمه الميديا الآن في العالم كله هو خلع عبارات من سياقها، سواء كانت لكتّاب أحياء أو موتى، وإن كان الأحياء قادرين على الدفاع عن أنفسهم فالموتى لهم الله!
وحين يختصر البعض هذه الظاهرة بالإشارة إلى الآية الكريمة: «لا تقربوا الصلاة»، فهم على شيء من الحق، لأن كل انتقاء يقتضي حذفاً ما، يؤدي إلى خلل في المعنى. وهناك أبواب ثابتة وتقليدية في الصحف والمجلات تقدم أقوالاً مأثورة أو منسوبة إلى مشاهير في مختلف المجالات.
وحين نقرأ بعضها ونعود إلى الأصل نجد أنها مبتورة، وأشبه بمبتدأ حذف منه الخبر، وهذا بحد ذاته سبب لتعميق سوء التفاهم، وبالتالي الاختزال المخل!
وما ينسب إلى كتّاب أو ساسة في مختلف القارات لا يمكن الإركان إليه باعتباره النص الكامل، وأحياناً نقرأ في الصحف العربية أقوالاً لساسة ومثقفين وجنرالات في الدولة العبرية تبدو في ظاهرها بالغة الاتزان، ومنصفة للعرب، لكن الحقيقة غير ذلك، وإخضاع ما يتم اختياره من مقولات أو حتى مقالات للرغائب خطأ مزدوج، لأنه يؤدي إلى ردود أفعال منقطعة من حيث الدلالة عن الأفعال ذاتها!
وهذا النمط من القراءات المتعسفة والاختزالية غالباً ما يتم توظيفه لأهداف محددة، لكنها على المدى الأبعد يؤدي إلى عكس ما تم توظيفها لأجله.
وقد يكون أحد أسباب تردد المثقفين العرب في كتابة نقد ذاتي هدفه التقويم والبناء هو الخشية من هذا التصيد، بحيث يبدو من يحب وطنه ويخاف عليه ويتمنى له أن يكون أفضل وأكمل كما لو كان يهجوه.
ومثال هنرى ميلر ليس الوحيد في هذا السياق، فمعظم الكتّاب الغربيين الذين انتقدوا بلدانهم بقوة اعترفوا بأنهم فعلوا ذلك لفرط الانتماء وليس العكس!Original Article

زر الذهاب إلى الأعلى