الأبواب المشرعة في المدينة المتوحّشة
د. نسيم الخوري
قد يقع هذا النص أوّلاً، في ملعب لبناني، وقل في «ساحة» مقلقة لشعبها ولغيرها من ناحية، كما يقع، من ناحية ثانية، في ملاعب دموية هائلة لمشرق العرب تدفع ببقايا جحافل التهديم المحليّة والمستوردة نحو الباب الشرقي لمغرب العرب والمسلمين، وهو نص قد يقع أيضاً في النظرة النقدية إلى «عظمة» الغرب والشرق غير العربيين في تشابههما أوتنافسهما على تبادل الأسرار والنفوذ، وتكديس الإنتاج، خصوصاً أجيال الأسلحة الفتّاكة القادرة على تشريع الأبواب على المخاطر، مع أنّ الباب الوحيد الذي لم يرد العالم غلقه بعد هو باب فلسطين المفتوح، كما يبدو، نحو الأبد.
كيف؟
في النظرة إلى الدول الغنيّة، سواء أكانت في الشرق أم في الغرب، يمكننا أن نسجّل نوعاً من تراجع الانبهار الذي حظيت به دول الإنتاج، بمعنى الإبداع والتقدّم، وتبوخ فكرة الاستهلاك أيضاً بمعنى التخلّف والتسخير التي تحكّمت في تصنيف المجتمعات البشرية.
تشابهت المجتمعات وتقاربت عمرانياً وتداخلاً، لكنها لم تتوحّد خلال ألفيتين. يعود السبب إلى بروز التواصل السريع، وطغيانه بين البشر بما يجعل المجتمعات الإنسانية تتوحّد في الأسواق، والعمران، والأشكال، والأدوات، والحاجات، والطموحات، والهموم، لكنّها للأسف تبقى قابلة للاقتتال، كأنّها الضلع الضعيف في مثلّث غير متساوي الأضلاع يستحيل عليه تحقيق العدالة. تظهر تلك الزاوية المضيئة في المدن المعاصرة موطناً للاستغلال، والغموض، والإرباك، والانصياع، وتحقيق الثروات والمكاسب والأرباح، بما يقصي المحشورين فيها عن فلسفة الإنتاج بهدف المزيد من الإنتاج وتحقيق قوة الدول والشركات الدولية.
في ضوء هذه الملاحظة، يمكنني حصر تعب البشريّة ومنجزاتها، في دائرتين تبرز عبرهما مجالات التمايز والنتوءات بين الأمم:
1- الإبداع والإيمان: لا يمكن محو الفكرة التي تنظر إلى النشاط الإبداعي والابتكاري واستمراريته بكونها تحقيقاً لحركة الإبداع الأولى التي تأسّست عليها الأديان، باعتبارها منحة من الخالق للعقل، وبالعقل تقوى وتنشط روحيّاً فتقرب من الله، أو تتراجع وتخفّ فتبقى بحاجة، تحقيقاً لتفوّقها وتمايزها، إلى إظهار تخلّف غيرها أو تبيان التفوّق عليه وتجاوزه. قد يسكن الإنسان حس المحافظة على بقائه وقوّته وتميّزه عند عقد المقارنات بين قدرته وتسلّطه على الكائنات الأخرى. لكن ماذا نفعل عندما تتظهّر سلطة الإنسان المعاصر كأنّه لم يخرج بل يعود إلى كائنه الأوّل الوحشي عبر تعميم فكرة الإرهاب وحصرها في نواحٍ مظلمة من الشرق الأوسط؟
2- دورة الحضارات: تستمرّ المنجزات الحضارية في تراكمها عبر الأنشطة الإبداعيّة-الإنتاجيّة من فردٍ إلى آخر، ومن أمّةٍ إلى أخرى، ومن كوكبٍ إلى آخر، كما هو حاصل عبر تدفّق الأزمنة حيث تنمو حضارات وتذوي أخر. بهذا المعنى، نعتبر النشاط والاجتهاد البشري نوعاً من الأحجار المشقوعة شهادةً على قيام الحضارات والتفاخر بها واندثارها أحياناً إلى ما لا يتجاوز سطرين في القواميس والموسوعات، والأمثلة كثيرة دوّارة من ركام بلاد ما بين النهرين، إلى الإغريق والرومان ثمّ بلاد ما يسمى «الربيع العربي» الذي لم يتعب من فتح الجروح في جسد العرب.
يعمّق هذا النص الغموض في مساحة فهم التكافؤ والتفاعل بين دائرتي النشاط المذكورتين حيث يقوى الالتباس بين قدرة العقل على التفكير والتغيير، وتسليم أصحابه بما هو موجود ومعروض للأسواق والأذواق. ولو ذهبنا إلى أعمق من ذلك، لقلنا إنّ الخالق هو النبع الطبيعي للإنتاج الأعظم، والإنسان هو حفنة من تراب مؤجّل دفنها مستهلكة وهالكة أبداً بوصفها النهر المتدفّق أبداً من النبع.
ونلحظ داخل هاتين الدائرتين، وحول شكلي النشاط «الإبداعي» (على اعتبار أنّنا قد نصادف نظريات تعتبر التلقّي والاستتباع والاستهلاك المادي الأعمى، وجهاً خادعاً آخر من وجوه الإبداع) أن حركات تغيير و«ثورات» قامت، وستقوم إلى درجة صار من العسير حصر المصطلحات التي أقلقت المجتمع البشري مثال التنمية، والتبعيّة، والتخلّف، والتقدّم، والجدّة، والابتكار، والخلق والإبداع، والمعاصرة والحداثة والتحديث، وما بعدهما بما فصّل أقيسة العالم والشعوب إلى أوّلٍ وثانٍ وثالث ورابع..الخ. ليعود التقسيم نحو مرحلةٍ من التداخلات سقط عبرها الكثير من مساحات التمايز بين الشعوب. ستبقى السماء برمزيتها هي المنتج الأكبر والأرض هي المتلقّي أو المستهلك والهالك الأكبر.
تقتضي إشكاليات هذه العلاقة بين الإنتاج والاستهلاك التوسّع في استيعاب مفهوم الحضارة لكونه مدلول تموّج بين علوم ازدهار المجتمعات واللاهوت مروراً بالفلسفة، خصوصاً لفهم الحضارات في تعدّدها ووحدتها، وتلاقحها عند الاستغراق في ما كتب عن بلاد ما بين النهرين ومصر واليونان التي توضع دولها المعاصرة وتراثها وكنوزها ومخطوطاتها وشعوبها في موقع السقوط، وصولاً إلى فهم فلسفة الحضارة التقنية والمعلوماتية المعاصرة التي تبدو كأنّها لم تبلغ أوج قوّتها ونهضتها حتّى بالنسبة للأجيال التي تعاصرها، فتعتبر الحضارة لعبة تجعل الإنسان يلعب بقشرة دماغه، ويفرغ محتواها الرمادي المشرق بحثاً عن أفكار وكشوفات تعيد طرح مستقبل الإنسانية وصراعاتها وتفاعلها وتناسلها بما يوصلها إلى الخراب الكوني الكبير الذي يجعل العالم لا قريةً صغيرة عالمية، بل مدينة متوحّشة تأكل نفسها.
هل هناك من حلّ؟ قفل الباب الفلسطيني الذي يعمّم في أرجاء المدينة العالمية.