قضايا ودراسات

الاتحاد الإفريقي ومعضلة الهجرة السرية

تحتضن القارة الإفريقية إمكانات بشرية وطبيعية وثقافية هائلة؛ كما توجد القارة في موقع دولي استراتيجي وحيوي، وهي المقومات التي تتيح للدول الإفريقية مجتمعة فرصاً واعدة للاستئثار بمكانة وازنة في النظام الدولي..
بغض النظر عن التطور الكبير الذي شهدته دول القارة السمراء؛ على مستوى مراكمة تجارب ديمقراطية مهمة أو على مستوى تطوير إمكاناتها الاقتصادية، فإن الممارسات الميدانية تعكس وجود مفارقة واضحة بين إمكانات ضخمة وما تتيحه من فرص كبرى.. من جهة؛ وواقع مرير يعكس الهشاشة وهدر الطاقات؛ من جهة أخرى..
ما زالت دول القارة بحاجة إلى بذل المزيد من الجهد على طريق تحقيق التنمية المنشودة؛ وتجاوز التهافت الدولي الكبير الذي تتعرض له خيرات القارة. ويبدو أن النخب السياسية الجديدة في عدد من الدول الإفريقية عازمة على كسب هذه الرهانات بعد عقود من الحروب الأهلية والإقليمية والانقلابات والمجاعات..
غير أن هذه الطموحات؛ لا ينبغي أن تحجب حجم الصعوبات التي تعيشها إفريقيا، ذلك أن ثمة مجموعة من الإشكالات التي ما زالت تفرض نفسها أمام عدد من الدول في أبعادها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والبيئية..
فالكثير من شباب هذه القارة يعاني معضلات البطالة والتهميش والأميّة التي دفعت بعدد منهم إلى ركوب غمار الهجرة بمختلف أشكالها، بحثاً عن فضاءات أرحب تضمن إنسانيتهم وكرامتهم، حيث تشير الكثير من التقارير إلى أن الدول الإفريقية تتموقع على رأس المناطق المصدرة للهجرة تحت ضغط عوامل اقتصادية وسياسية واجتماعية وأمنية..
وقد زادت حدّة هذه الظاهرة في العقود الأخيرة بسبب هذه العوامل؛ ما دفع الكثير من الدول الأوروبية إلى اعتماد تدابير صارمة لمواجهتها بصورة لم تخل من ارتباكات عمّقت المعاناة والمآسي الإنسانية لهؤلاء الحالمين بظروف عيش أفضل..
عندما تأسس الاتحاد الإفريقي على أنقاض منظمة الوحدة الإفريقية عام 2002؛ حاول الاستفادة من هفوات الماضي؛ حيث طرح ضمن قانونه التأسيسي مجموعة من الأهداف الاستراتيجية المتصلة بتحقيق الاندماج السياسي والاجتماعي والاقتصادي للقارّة، وتوحيد المواقف المشتركة إزاء مختلف القضايا التي تعني القارة وشعوبها، بما يسهم في تحقيق السلام والأمن؛ وترسيخ الممارسة الديمقراطية وحقوق الإنسان..
وقبل أيام معدودة انعقدت أشغال قمة أعضاء الاتحاد الإفريقي في دورتها التاسعة والعشرين بالعاصمة الإثيوبية أديس أبابا، تحت شعار «تسخير العائد الديموغرافي من خلال الاستثمار في الشباب»، تم التركيز خلالها على مجموعة من القضايا والأولويات من قبيل إشكالات السلام والأمن بإفريقيا وميزانية الاتحاد الإفريقي برسم 2018 والإصلاح المؤسساتي للاتحاد..
تشير التجارب الدولية الرائدة في مجال التّكتل إلى أن الكثير من التنظيمات الإقليمية، كما هو الشأن بالنسبة للاتحاد الأوروبي، لعبت أدواراً مهمة على مستوى دعم التنمية والممارسة الديمقراطية لأعضائها.. غير أن تحقيق هذه الرهانات لم يكن محض الصدف؛ بل كان نتاج عمل دؤوب وتدرّج في التّعاطي مع الأولويات.
أضحت الكثير من دول إفريقيا مقتنعة بأن عالم اليوم بمخاطره وإشكالاته الكبرى، يقتضي تكثيف الجهود واستثمار الإمكانات المتاحة لضمان موقع محترم بين الأمم.. ويبدو أن الاتحاد الإفريقي استطاع تجاوز بعض التعقيدات التي رافقت أداء بعض التنظيمات الإقليمية كجامعة الدول العربية.. على مستوى اعتماد قاعدة الإجماع أو استئثار مؤتمرات القمة باتخاذ القرارات الحاسمة؛ وهو ما تؤكده مقتضيات قانونه التأسيسي التي سعت إلى دمقرطة اعتماد المقاربة التشاركية في هذا الصدد..
ومع ذلك؛ ما زالت تطرح الكثير من الإشكالات حول أداء الاتحاد؛ سواء تعلّق الأمر منها بالصعوبات المتصلة بتمويل مهامه وأنشطته، ذلك أن ما يناهز الثمانين في المئة من هذه التمويلات، مصدرها المانحون الدوليون؛ وهو ما يثير أسئلة ملحّة بصدد النجاعة في التعاطي مع المشكلات الإفريقية المتزايدة، وحدود الاستقلالية الكفيلة بتحقيق المصالح الحقيقية لإفريقيا..
فيما تشير التقارير الدولية إلى تنامي التحديات التي تفرضها المخاطر الأمنية والبيئية في هذه القارّة. فعلاوة عن النزاعات والصراعات التي تعرفها بعض المناطق؛ ما زالت ظاهرة الإرهاب تؤرق الكثير من دول المنطقة؛ كما هو الشأن بالنسبة لمنطقة الساحل والصحراء وليبيا والصومال..
وتظل ظاهرة الهجرة السرية على رأس أهم الإشكالات التي تواجه المنظمة؛ لما تخلّفه من تداعيات اجتماعية وإنسانية. فالتقارير الدولية الصادرة عن المنظمات والهيئات ذات الصلة؛ تشير إلى أن حصّة الأسد من نسبة المهاجرين السّريين عبر العالم ينحدرون من القارة الإفريقية؛ كما تقف على حجم الكوارث الإنسانية التي تخلّفها رحلات الموت التي يقطعها الحالمون باجتياز ضفة المتوسط نحو الشمال، وهو ما يطرح الكثير من الأسئلة بصدد العوامل المغذّية لهذه الظاهرة التي لا تقف تداعياتها عند الدول المصدرة؛ بل تتجاوزها إلى الدول المستقبلة التي أبانت في السنوات الأخيرة عن ارتباك واضح في سياساتها المعتمدة في هذا الصدد؛ حيث يتمّ تغليب الهاجس الأمني على حساب الجوانب الاجتماعية والإنسانية للظاهرة..
إن استمرار تدفّق الهجرة السّرية من إفريقيا هو دليل على وجود معضلات تدفع الكثير من الشباب إلى مغادرة بلدانهم كرهاً، بما يعنيه ذلك من وجود قصور على مستوى مشاريع التنمية واستثمار الإمكانات المتاحة في هذا الخصوص.. وعجز الدول الإفريقية على وضع سياسات تدعم إدماج هؤلاء الشباب داخل المجتمع والاستفادة من خبراتهم وكفاءاتهم في مختلف المجالات والميادين..
حقيقة أن ظاهرة الهجرة السّرية أصبحت تشكل في الوقت الحاضر تحدّياً كبيراً أمام المجتمع الدولي برمته؛ وتتطلب بلورة جهود في إطار من التنسيق والتعاون الدوليين بصورة تدعم مواجهة العوامل المغذية للظاهرة في ارتباط ذلك بتدبير الأزمات والنزاعات في إفريقيا، وبناء تعاون اقتصادي متوازن بعيد عن مظاهر الهيمنة والاستغلال.. لكن الأمر يقتضي أيضاً انخراط الدول الإفريقية في إطار الاتحاد في بلورة سياسات ناجعة، تدعم تحقيق التكامل الاقتصادي وتوفير شروط التنمية..
إدريس لكريني
drisslagrini@yahoo.frOriginal Article

زر الذهاب إلى الأعلى