التفكير إمبراطورياً
جميل مطر
خلال الأسابيع الأخيرة لم أحضر نقاشاً جاداً حول مستقبل الشرق الأوسط إلا وخرجت بانطباع لم أعهد كثيرًا مثله من قبل. سياسيون مخضرمون وأساتذة وخبراء علاقات دولية من الذين اختلطوا حديثاً بأقران لهم في الشرق، في كوريا واليابان وباكستان مثلاً، وبأقران في الغرب أيضاً، صاروا يهتمون كثيراً في مداخلاتهم في دوائر الحوار بأدوار «دول ورثت حضارات قديمة». مقابل هذا التطور اللافت للانتباه في محاولات لفهم «المرحلة الثورية» الراهنة في العلاقات الدولية، صار في حكم المستقر في أذهاننا أن دولاً في الغرب راحت بعد الحرب العالمية الأولى تستعير من تاريخها أساليب إمبراطورية في الحكم وفي التوسع.
قمت بإجراء مقارنة ذهنية بين ما تنفذه فرنسا وما تنفذه الصين من خطط عبر سياستيهما الخارجية، بهدف توسيع دائرة نفوذهما إقليمياً ودولياً. سمعت الرئيس ماكرون يحلم برقعة واسعة من العالم فرانكفونية الثقافة، فهو يتخيل أن الحلم سوف يتحقق في أحسن الظروف بعد حوالي ثلاثين عاماً. عدت أقرأ خطة الرئيس الصيني شي تحت عنوان «مبادرة الحزام والحرير»، لتزداد ثقتي في أنها تعكس فكراً مختلفاً وتعبّر عن ذهنية أكثر طموحاً وتعقيداً وتدفعها طاقة متجددة من بشر وإمكانات ونوايا إمبراطورية تتجاوز نوايا ماكرون. تعود بك الخطة الصينية إلى القرن الثالث عشر، القرن الذي شهد تنفيذ ماركو بولو مشروع طريق الحرير. بدأه من إيطاليا وسار به مخترقاً وسط آسيا متوجهاً إلى غرب الصين. لم يفته أن تكون العودة عن طريق بحر الصين الجنوبي فالمحيط الهندي. يؤكد المشروع الصيني في طبعته المنقحة والموسعة الثقة التي يوليها المجددون في دول آسيا لإنجازات المراحل الإمبراطورية في تاريخ أممهم وضرورة الاستفادة منها.
احتاجت البشرية قروناً عدة لتتشرب حضارة الغرب وثقافة الرجل الأبيض. شعوب عدة انتهت عند نسخ مشوهة، مزيج من الغرب والشرق لا هو غرب خالص ولا هو شرق صافٍ. دول كثيرة معاصرة عانت مرارة الانتقال إلى الغرب لتكتشف أنها بعد مئات السنين وعديد التجارب لم تزل مشدودة إلى ماضٍ يرفض أن ينصرف أو يتطور. بعضها كان فيه ما يكفيه من صراع الهويات التقليدية ليزيد عليه الانتقال أثقالاً لا هويات وافدة من صنع شعوب وحضارات أخرى. المواطنة لم تكن من صنع شعوب الشرق وحضاراته ولا كانت القومية. قيم جاءت مع الانتقال لم يكن لها شبيه أو قرين أو جذور في ثقافات شعوب كثيرة. بينها قيم جاءت تهز قواعد استقرت منذ قرون. حدث هذا عندما وصلت طلائع شركة الهند الشرقية إلى شبه القارة الهندية ومنها انتقلت ومعها شحنات الشاي والأفيون إلى الصين. حدث عندما وصلت بوارج نابليون إلى الإسكندرية ونزل جنوده وعلماؤه إلى البر. حدث في الأمريكتين يوم اكتشفهما كولومبوس ولحقت به أساطيل إسبانيا ومراكب الفارين من عنف الصراع الديني، وقتها حمل المبشرون والجنود والحجاج رسالة من الرجل الأبيض. رسالة يشهد التاريخ أنها لخصت بكل الأمانة الواجبة كذب الغرب في تلك المرحلة الاستعمارية ونفاقه ونواياه تجاه الشعوب غير البيضاء. من هذه الشعوب ما أبيد، ومنها ما استرق، ومنها ما عذب وشرد، ومنها ما استخدمته آلة الاستعمار ليزيد عائدها ويخدم أهدافها ويؤمن مصالحها.
الغرب المقيم فينا هو الآن مهدد، ومع ذلك ما زلنا نقيس بمعاييره مدى ما حققته شعوبنا العربية من «تقدم».
أنظر من موقعي العربي في الشرق الأوسط فأرى جديداً، أرى نفوذ الغرب كقوى استعمارية ينحسر، ومناطق نفوذه تنكمش. أرى جماهير جامحة من إفريقيا وآسيا تجاسرت فاقتحمت حدوده وفرضت نفسها رعايا على أرضه أو معتدين على مقدساته وأرواحه. أرى الرأي العام في الغرب لا ينظر بعين الرضا إلى جل تاريخه الاستعماري، وغير مرحب بدول تستدرجه طرفاً في صراعاتها. صراعات لا تفيد الغرب كما كانت تفيده في الماضي عندما كان يستعمر هذه المناطق.
أرى شيئاً آخر. أرى زحفاً نحو هذا القلب العربي. زحف من أجل النفوذ أساساً، ولكن أيضاً من أجل أهداف أخرى، الزحف قادم من بعيد جداً ومن قريب جداً، وفي الحالتين تدفعه وتحركه وتغذيه أفكار من تراث إمبراطوري. الزحف القادم من بعيد هو من الصين، وبعده بسنوات قليلة تصل أمواج أخرى أيضاً من بعيد، وأقصد الهند، ومعه أو في ركابه اليابان الجديدة، ولكن أيضاً مدفوعة بفكر إمبراطوري. الشرق البعيد تحرك بالفعل محملًا بمصالح، وليس برسائل، وإن وجدت الرسائل فلن تأتي قبل أن يستقر المقام بالمصالح المادية. كلاهما، الزحف القادم من بعيد والزحف القادم من قريب، يدرك أن قلب الشرق الأوسط، القلب العربي، بوضعه الحالي لن يشكل عقبة على طريق التوسع في النفوذ الإمبراطوري الصيني أو الهندي. واضح وضوح الشمس أن قيادات القلب العربي ترفض الاستعانة بأي فكر بنّاء أو إيجابي خلفته إمبراطوريات «عربية المنشأ» أو إمبراطوريات كان للعرب في توسعها ونهضتها وصنع تراثها الفضل الأكبر. نقرأ الخطاب السياسي العربي الراهن فلا نجد فيه دليلاً على صلة أو تمسك أو علاقة إعزاز بفكر وطموح مرحلة إمبراطورية عربية بعينها.
العكس تماماً نقرؤه في الخطاب السياسي لكل الدول الزاحفة نحونا، البعيد منها والقريب. نقرأ فيه استلهاماً من عقيدة إمبراطورية واسترشاداً بطرق سلكها السابقون وأساليب استخدموها. نقرأ ونقارن وندعو للانتباه.