قضايا ودراسات

الثوم من الصين.. والمكانس من كوريا

لا أريد للقارئ أن يوجه لي تهمة الاستيقاظ أخيراً لحالة التسيب الاستهلاكي، فقد سبق لي أن تناولت هذا الموضوع في أكثر من زاوية ومنذ سنوات، لكن الخوف فاض بي أخيراً فأحببت أن أفضفض في إشارات دالة إلى أن الوطن العربي بملايينه الثلاثمئة والخمسين مليوناً لم يعد سوى سوق استهلاكي مخلّع الأبواب والنوافذ.
وبعد أن كان مواطنون إلى ما قبل خمسين عاماً يستوردون من الشرق «الشاي» ومن الغرب «الكماليات» فقد صاروا بفضل الكسل العقلي وغياب التخطيط الوطني القومي يستوردون من الشرق كل شيء حتى المكانس والثوم، ويستوردون من الغرب كل شيء من الغذاء إلى الدواء. وهو مصير طبيعي لكل وطن أسرف أبناؤه في إهمال الأرض والاتجاه إلى النوم الذي سيتحول في وقت لن يطول كثيراً إلى كوابيس تبعث على القلق وتكرس مشاعر الخوف من مستقبل لا مجال فيه للاستهلاك ولا مال فيه للاستيراد.
إن نظرة واحدة إلى الأرض العربية في شتى مواقعها ومناخاتها تؤكد أن فيها مساحات شاسعة واسعة لزراعة كل المحاصيل التي تكفي أبناء الوطن العربي وتفيض على غيرهم، فما الذي جعل هذه الأرض الخصبة الصالحة لزراعة كل المحاصيل دون استثناء تصاب بالعقم ؟ وهل يعود السبب إلى إهمال الأرض والتوقف عن الزراعة التفرغ للصراعات السياسية التي شغلت القيادات الوطنية وأنستهم واجباتهم الحقيقية ومسؤوليتهم اتجاه أبناء شعبهم حاضراً ومستقبلاً ؟ الإجابة واضحة من السؤال نفسه، وإلاَّ فكيف غاب عن هذه القيادات ما يعانيه الاقتصاد الوطني من إهدار في شراء ما كان متوفراً، وما يمكن أن يكون متوفراً بقرار معدود الكلمات يقتضي منع استيراد ما يمكن توفيره وطنياً، وإعادة الاهتمام بالصناعات المحلية لسد الاحتياجات اليومية وبالعملة المحلية وبأثمان معقولة لاسيما بعد تصاعد أثمان الأشياء المستوردة.
ونظرة أخرى إلى ما تعرضه المتاجر العربية من مواد كانت – إلى وقت قريب – متوفرة ومن المنتجات المحلية، وتعالوا نتوقف عند منتج مستورد وهو المكانس المصنوعة من سعف النخيل، ولا أظن أن كوريا وهي البلد المصدر لهذا النوع من المنتجات البسيطة تزرع من شجر النخيل ما يوازي عشرة في المئة مما هو موجود في الوطن العربي أرض النخيل الممتدة من أقصى المغرب العربي إلى أقصى المشرق العربي وهو المحصول الذي لا تكاد تخلو منه أرض عربية، فهل مات كل النخيل الذي كان مصدراً للمكانس والحصير والزنابيل والأطباق من سعف النخيل ؟ وهل عجزت الأمهات العربيات عن ولادة من يتولى أمر هذه الصناعة اليدوية البدائية التي كانت وما تزال تعدّ من أبسط الصناعات الأولية التي تناقلتها الأجيال عبر العصور ولم تكن بحاجة إلى مصانع وإمكانات غير الأيدي العاملة والإشراف الرسمي القادر على منع كل سلعة منافسة لما هو وطني وسهل التصنيع.
قد يرى قارئ أو مجموعة من القراء الذين يعيشون في ظروف أكثر توازناً وطمأنينة أن في إشاراتي السابقة ، بل في تناولي للموضوع كله قدراً من المبالغة، لكن لو قُدّر لهم أن يعيشوا حيث أعيش ويروا ما أراه لأدركوا أن الواقع أسوأ مما تقوله الكلمات، وأن الغضب ضد ما يحصل هنا وهناك مبرر ويعكس حالة من القلق لا على الإنسان الذي يعاني حالياً ويقترف إثماً في حق الأرض وإمكاناتها، وإنما على الأجيال القادمة التي ستجد أنها أعجز ما تكون عن مواجهة متطلبات الحياة الضرورية أو بعبارة أخرى متطلبات البقاء بعد أن أغلقت الأجيال السابقة كل الأبواب المؤدية إلى شيء يحفّز على البدء في بناء ما دمره الإهمال والاعتماد على ما ينتجه الآخر.
د.عبدالعزيز المقالح
bdulazizalmaqaleh@hotmail.comOriginal Article

زر الذهاب إلى الأعلى