قضايا ودراسات

الجامعات وقضايا حقوق الإنسان

تزايد الاهتمام الفكري والسياسي بقضايا حقوق الإنسان، وطنياً ودولياً؛ ما سمح ببلورة مجموعة من الجهود الرامية لحماية هذه الحقوق اللصيقة بالفرد وبوجوده.
فقد أسهمت النضالات والثورات الإنسانية على امتداد التاريخ، في مراكمة مكتسبات دعّمت هذه الحقوق؛ من حيث تجاوز كل مظاهر القتل والرّق والعبودية والتسلّط، وفي ترسيخ مناخ دولي أضحت فيه حماية حقوق الإنسان مسؤولية جماعية؛ حيث اعتمد العديد من المواثيق والمعاهدات الدولية في هذا الخصوص؛ علاوة على الدساتير والتشريعات الداخلية التي دعمت هذه التوجهات.
وأسهمت الكثير من العوامل في تزايد الاهتمام بقضايا حقوق الإنسان وطنياً ودولياً، من قبيل تطور التشريعات المحلية والدولية في هذا الشأن؛ واعتبار احترام حقوق الإنسان مؤشراً من مؤشرات تقييم تطوّر، وتقدم الدول؛ ومعياراً لقياس مشروعية الأنظمة السياسية، علاوة على خطورة الانتهاكات والخروق التي طالت حقوق الإنسان وتداعياتها على السلم والأمن الدوليين.
وقد تطوّرت الآليات الدولية لحماية حقوق الإنسان في العقود الأخيرة؛ فعلاوة على محورية الوسائل الوطنية في علاقتها بالتشريعات والقضاء ومختلف هيئات المجتمع المدني؛ تلعب الأمم المتحدة بأجهزتها الرئيسية ومختلف وكالاتها المتخصصة، دوراً مهماً في هذه الحماية على المستوى العالمي؛ فيما تزايدت أهمية هذه الحماية في بعدها الإقليمي من خلال مواثيق وآليات عامة، وخاصة.
إن دعم حقوق الإنسان في أبعادها الشمولية؛ سواء على المستوى الأفقي في ارتباطه بترسيخ ثقافة الحقوق وتعزيز الوعي بها وبقيمها ومبادئها، أو عمودياً في ارتباط ذلك بالتأثير في السياسات العمومية والتشريعات وفضح الانتهاكات، يسائل الكثير من القنوات من قضاء وإعلام ومجتمع مدني ومؤسسات تعليمية.
وتستأثر الجامعات باعتبارها فضاءات للمعرفة والتوعية وإنتاج النخب بقدر كبير من الأهمية في هذا الصدد، ذلك أن التعليم هو آلية للتنشئة وما يتصل بها من ترسيخ قيم التعايش والاختلاف والمواطنة والحقوق والحريات، وأخلاقيات البحث العلمي، ونبذ العنف في أوساط الطلاب؛ بما يعزّز وعيهم بحقوق الإنسان، والمبادئ الديمقراطية.
إن استئثار الفضاء الجامعي بهذه المهام النبيلة يقتضي توفير مجموعة من الشروط، سواء ما تعلق منها بتبني مناهج متطورة، أو بلورة مخرجات وبرامج تستحضر قضايا ومبادئ حقوق الإنسان، كما أن هذا الرهان لا يمكن أن يتحقق إلا عبر تشجيع الإبداع وضمان الحرية الأكاديمية، وتخليق عمل الجامعات، وجعلها فضاء للتشاركية، وللعلاقات الإنسانية الراقية بين مختلف المكونات (أساتذة؛ وموظفين وطلاباً..) واحترام الكرامة الإنسانية، وعدم التمييز، وتشجيع حريتي الفكر والتعبير والمنافسة الشريفة؛ بعيداً عن كل مظاهر التسلط، والانغلاق، والانفراد بالقرارات.
وعلى عكس الكثير من الدول المتقدمة التي استطاعت أن ترتقي بمؤسساتها التعليمية بشكل عام والجامعية على وجه الخصوص، كمدخل للاستثمار في الإنسان ولمواجهة المخاطر والتحديات في أبعادها الاجتماعية والاقتصادية والأمنية، أضحى التعليم في عدد من الدول العربية جزءاً من المشكلات المطروحة؛ كنتاج طبيعي للتهميش الذي يلاقيه هذه القطاع الحيوي من قبل صانع القرار وتفشي عدد من الممارسات التي تؤثر بالسلب في صدقيّته ووظائفه المفترضة.
فعوض أن تشكل الجامعات فضاءات لترسيخ الممارسة الديمقراطية واحترام حقوق الإنسان، كفكر وسلوك يومي؛ وتوخّي الحوكمة في التدبير بما يتصل بذلك من ولوج للمعلومات وشفافية وتشاركية ونجاعة في التدبير، نجحت الكثير من النظم السياسية في المنطقة في نقل مظاهر الاستبداد إلى داخل هذه المؤسسات.
وتزايدت في العقود الأخيرة مطالب الأمم المتحدة، وعدد من المنظمات الدولية المعنية بحقوق الإنسان؛ الداعية إلى تدريس حقوق الإنسان داخل الجامعات واستحضار هذا الأمر ضمن مختلف الأنشطة والأبحاث؛ بما يسمح بتنمية قدرات وكفاءات الطلاب في هذا الخصوص، ودعم مشاركتهم ومساهمتهم في تحقيق التنمية داخل مجتمعات منفتحة ومتسعة لكل مكوناتها.
وتشير الفقرة الثانية من المادة السادسة والعشرين للإعلان العالمي لحقوق الإنسان إلى أنه «يجب أن يستهدف التعليم التنمية الكاملة لشخصية الإنسان وتعزيز احترام حقوق الإنسان والحريات الأساسية. كما يجب أن يعزِّز التفاهم والتسامح والصداقة بين جميع الأمم وجميع الفئات العنصرية أو الدينية، وأن يؤيِّد الأنشطة التي تضطلع بها الأمم المتحدة لحفظ السلام».
ما زال تدريس حقوق الإنسان في كثير من الجامعات يقتصر على كليات الحقوق وضمن مواد مستقلة، والواقع أن كسب رهان هذا التدريس من حيث تطوير شخصية الطالب، وتمكينه من رؤية عامة عن مفهوم حقوق الإنسان، وأنواعها، في أبعادها الشمولية والعالمية؛ وعن مختلف التشريعات الداخلية والمواثيق الدولية وآليات حمايتها وترسيخها؛ ورصد علاقاتها بالتنمية وتعزيز السلام والتضامن الدوليين، وترسيخ ثقافة الحوار والتعدد والاختلاف واحترام الآخر.. لا يمكن أن يتحقق إلا مع وجود أطر جامعية مواكبة، ومدربة، ومؤمنة بحقوق الإنسان، وبترسيخ هذه الثّقافة ضمن الممارسات اليومية داخل الجامعات، وبين مختلف مكوناتها، وإرساء تشريعات تضمن كرامة وحرية الباحثين، علاوة على اعتماد مناهج متطورة في هذا الخصوص؛ واستثمار التكنولوجيا الحديثة ضمن العملية التعليمية، وفتح شراكات بنّاءة مع مختلف فعاليات المجتمع المدني المعنية بحقوق الإنسان؛ بما يسمح بتجاوز المقاربات النظرية والقانونية، إلى دراسة الواقع بكل إشكالاته، وتعقيداته..
ويتطلّب الأمر استحضار حقوق الإنسان في مختلف التخصّصات في العلوم الاجتماعية والحقّة؛ وضمن مختلف الأنشطة الجامعية (مؤتمرات، ودورات تدريبية، ودراسات، وأبحاث، وأطاريح جامعية، وأنشطة ثقافية وفنية موازية..)، وإحداث مراكز ومجلات وأقسام ماجستير خاصة بهذا الخصوص، وتعزيز التعاون بين مختلف المؤسسات الجامعية في هذا الإطار، وطنياً وإقليمياً ودولياً، وإحداث عيادات قانونية.
إضافة إلى إحداث بنوك للمعلومات تسمح بمواكبة قضايا حقوق الإنسان على المستوى الوطني والدولي في شقّيها المفاهيمي والتطبيقي؛ وتجاوز المفارقات الحاصلة بين المناهج المعتمدة من جهة والمضامين المقررة من جهة أخرى، وبين النظريات والواقع من ناحية، والواقع وتعقيداته من ناحية أخرى..
إن استحضار الجامعات لقضايا حقوق الإنسان؛ وترسيخها فكراً وممارسة؛ سيدعم انفتاح هذه المؤسسات على محيطها ويعزّز مكانتها كفضاءات لاكتساب المعرفة وتنشئة الأجيال؛ ويعيدها إلى عمق المجتمع وقضاياه.

د. إدريس لكريني
drisslagrini@yahoo.fr

Original Article

زر الذهاب إلى الأعلى