قضايا ودراسات

الجذور اللغوية للابتهالات

الذين لم يغرّزوا إلى الركب في اللغة العربية، يتصورون الأمور نزهة على الشاطئ. كان الموضوع منطقيّ التسلسل في الطرح، فقد تناول القلم الأدعية، ووجد الطريق سالكاً إلى الابتهالات، التي صارت خير تطبيق للأمّة التي وجد أهل الإنشاد الدينيّ عليها سابقيهم. الماضون أبوا أن يطوّروا، فأبى المتأخرون التجديد والتحديث.
فجأة ظهرت مشكلة لغوية أشدّ إشكالاً وأعجب أشكالاً، من مسألة الكساح الذي أصيب به الإنشاد الدينيّ. لا شيء نعرفه في العالم العربيّ كمعرفتنا وراسخ علمنا بعدم التطوير، كأنما نزلت آية في تحريمه تحريماً بيّناً مبيناً لفظاً وأمراً. قد لا يبقى في آخر عنقود العمود مجال لقول كلمتين في موسيقى المناسبات الدينية.
في الشدائد اللغوية، معاجمنا التراثية لا تسمن ولا تغني من جوع. بل إن اللغويين الذين نلجأ إليهم حين يعزّ الطلب ويشتدّ الظمأ، يضحكون من ذقوننا برشفة ماء مالح. تكمن المشكلة في أن تاريخنا اللغويّ لم يفكّر قط في التأصيل اللغويّ، بالرغم من كثرة اللغات في شبه الجزيرة العربية وجواراتها، لذلك لم تخطر ببال علماء العربية الحاجة إلى معجم تاريخيّ. من أين جاءت كلمة ابتهال؟
بعد جولة في هذا الثلاثيّ في قواميسنا الكبرى، وهي تتقارض وتتبادل هدايا السطو، نجد الجذر «ب ه ل» منحصراً في بضعة معانٍ معدودة: البَهل هو القليل (ماءً أو مالاً)، البَهل أي اللعن (الطرد، اللعين المطرود)، الإهمال: استبهل الرعيّة أهملها (أشهر ظاهرة في السياسة العربية)، التبهّل: العناء بما يُطلب.ههنا المفتاح، فمن دون أيّ توضيح استدلاليّ تأصيليّ، يقول لنا ابن منظور (لسان العرب): الابتهال: الاجتهاد في التضرّع. الجذر ماديّ وليس دينيّاً كما سنرى. أمّا الجوهري (الصحاح) فأقل ما يقال عنه إنه خانه التفكّر والتدبّر. ثلاثيّ «بهل» ورد مرّة واحدة في القرآن: «ثم نبتهلْ فنجعلْ لعنة الله على الكاذبين» (آل عمران 61)، قال الجوهريّ: «نبتهل أي نخلص في الدعاء». قبول هذا التخريج صعب إلى حدّ ما، مع احترام اللغويّ. هذا مثل قولنا كلاماً فارغاً من قبيل: تعالوا يلتئمْ جمعنا في مناجاة نشتِم فيها القوم الفلانيين». لا يستوي الإخلاص في الدعاء، واللعن، يا جناب الجوهريّ، ولا المناجاة والهجاء المقذع.
بعد هذا التعقيد، الحلّ بسيط، يكمن في معنى التبهّل الذي هو العناء في الطلب، وشدّة التوسل والتضرّع، والأخير الخضوع والخشوع مثله. والتضرّع هو التلوّي والاستغاثة.
لزوم ما يلزم: النتيجة الاعتذارية: مجاراة للمسلسلات الرمضانية، يبقى الجانب الموسيقي من الابتهالات إلى الحلقة المقبلة.

عبد اللطيف الزبيدي
abuzzabaed@gmail.com

Original Article

زر الذهاب إلى الأعلى