قضايا ودراسات

الجمع والتفريق

د. عبد الله السويجي
تلعب وسائل التواصل الاجتماعي دوراً في توجيه الرأي العام، ناهيك عن كونها باتت مصدراً للأخبار والتصريحات الرسمية وغير الرسمية، ومجالاً للتأكيد والنفي وطرح القضايا والمشاكل والإشكاليات، وفضاء لحشد المؤيدين والمعجبين وصناعة النجومية، فمعاييرها عدد المتابعين وعدد إشارات الإعجاب وإعادة الإرسال، وهي معايير لا يُرتكن إليها بوصفها كمية عشوائية تستند إلى المرور السريع والقراءة الأسرع. وفي الأزمات تنشط هذه الوسائل ويجدها المنخرطون فيها والناشطون فرصة لاستعراض التأييد أو الاستنكار أو الهجوم والانتقاد، حتى أن البعض يختلق الأخبار والمواقف ويقوم بتحريف التصريحات واللعب بالصور، إمعاناً باللعب على وتر شخصاني أو عرقي أو ديني أو قومي، لتمرير وجهة نظره وموقفه ونشر ما يكتب أو يبث على أوسع نطاق.
وهذا الفضاء الشاسع غير المسيطر عليه تماماً حوّل كثيرين إلى ناطقين بأسماء أنفسهم، وناطقين بأسماء أوطانهم وسياسات بلادهم دون تمتعهم بأي صفة رسمية أو قانونية أو سياسية، وهو ما يجعل هذا الفضاء مربكاً مشوشاً متناقضاً، لا يعرف الجاهل فيه إلى أي طرف يصطف أو أي رأي يؤيد، طالما أن التقنيات تُستخدم في التزوير والتشويه.
وقد سعت شركات كبرى ومؤسسات أمنية وغير أمنية للسيطرة على هذا الفضاء، لكنها لم تنجح نجاحاً مطلقاً، ففيه ما يمكّن الأفراد والمؤسسات من المساحات التي تسمح بالتخفي والتمويه، وإعطاء أي نصيحة هنا في التعامل مع المحتوى الضخم الذي تحمله وسائل التواصل الاجتماعي غير التدقيق والتأكد والتثبت من المحتوى، ستذهب أدراج الرياح، فلأول مرة في تاريخ البشرية، يتحوّل الإنسان إلى رقيب ذاته، إذ لا وسيط بينه وبين المحتوى سوى ثقافته وتدبير عقله وحكمته وعلمه، وإعمال مهارات التفكير النقدي في كل ما يقع تحت عينيه أو يتعرّض عقله له، وهنا يمكن تلخيص ما ورد بوصف موجز هو تحكيم العقل والمنطق، ومراعاة الشأن العام وتغليبه على الشأن الخاص.
إن أكثر فترة قامت فيها وسائل التواصل الاجتماعي بدور نشط كان قبل ست سنوات، عندما انطلق ما يُسمى ب «الربيع العربي»، وبما أنه شأن يختلط فيه العام بالخاص، والسياسات الدولية بمصالح الشعوب، وبروز الأحزاب والتنظيمات لتنفيذ أجنداتها التي قد تكون مؤيدة لمصالح الشعوب أو مناهضة لها، وبما أن ذلك الربيع سقط بالمظلة من سماء لا أحد يعلم مصدرها على وجه اليقين حتى الآن، فقد انتشرت الاجتهادات والتحليلات والقراءات التي اختلفت اختلافاً جذرياً الآن، مقارنة بالبدايات، فقد شاع بين الناس أن هذا الربيع جاء ليحقق العدالة الاجتماعية والمساواة بين الناس، ويرفع ظلم الحكومات الاستبدادية عن الشعوب المقهورة، ويؤمن بالتنوع العرقي واحترام الأديان والمذاهب والأجناس، فإذا به ينتهي إلى صراع طائفي ومذهبي وديني متوحش، خرجت فيه الجماعات المتطرفة من قمقمها دفعة واحدة وأخذت تنكل بكل من يخالفها الرأي، حتى باتت أكثر استبداداً من الحكومات الاستبدادية، وأدى هذا الوضع بالناس إلى الحنين والترحم على أنظمة حكم، كانوا يعتبرونها قمعية واستبدادية ودكتاتورية.
الغريب في الأمر في هذا السياق، أن هذه المجموعات المتطرفة لاقت تأييداً واسعاً من الجماهير التائقة للتغيير، وحتى من تلك الجماهير البعيدة عنها والمنسجمة مع قياداتها، ومن يعود إلى (بوستات) وسائل التواصل الاجتماعي قبل أربع سنوات، سيُذهل وسيتساءل كيف تحوّل الناس من رأي إلى رأي ومن خاطر إلى خاطر ومن تأييد إلى استنكار ومن حب إلى كراهية، وكيف تحوّل (المجاهدون) إلى (إرهابيين)، وأصبح المنتمي إليهم إرهابياً مطلوباً للعدالة وخارجاً عن القانون؟ وكيف تحوّلت أنظمة حكم من دكتاتورية إلى (محاربة للإرهاب)، وأنظمة أخرى من أنظمة طائفية إلى أخرى صديقة وحليفة.
وقع المغردون في مصيدة عدم الوعي والهيجان غير المدروس، لأنهم لجأوا إلى استعراض أنفسهم دون دراسة لمواقفهم، وبالتالي تغيروا وأصبحوا ينادون بالتغيير وينصحون أحبتهم وأصدقاءهم بالتريث والتأكد، وانتشرت ألفاظ مثل (خبر مفبرك، صورة غير حقيقية، فيلم مركب، صوت مدسوس، حساب غير حقيقي، كلام غير منطقي..)، ما يشير لأول وهلة إلى تنامي الوعي لدى الناس. لكن هذا الوعي ما يلبث أن يختفي عند أول أزمة، فيعود المغردون إلى عاداتهم الأولى، منهم من ينافق ومنهم من يركب الموجة، ومنهم مخلص وصادق، إلا أن الاتجاه العام يوصف بالانفعال المتطرف، كأن يعتقد أحدهم أنه يناصر سياسات دولته ضد سياسات دولة أخرى، فيشهر معجم الشتائم والكلمات البذيئة، وهذه لا دخل لها بالسياسة وإدارة الأزمات. ولهذا، وهنا يمكننا إبداء النصح بعدم القفز عن المواقف الرسمية، فالسياسيون يعلمون ما يقولون، والحكومات أدرى بقريناتها، وكل أزمة سياسية إلا وستجد انفراجاً يوماً ما، فلا ضرورة أن يتدخل المغردون بطريقة قد تسيء للمسعى السياسي أو الشعوب، وهذا ينطبق على المثقفين وكتّاب الأعمدة الذين يطلقون مواقف غير مدروسة ومن دون أدلة.
ما بين شعوب المنطقة أواصر وطيدة من نسب ومصاهرة وقرابة ومصالح، وما يربطها من عادات وتقاليد ومصائر مشتركة كبير ومهم، والتركيز على ما يجمع لا على ما يفرّق هو سياسة الشعوب، أما سياسة الحكومات فهي تكتيكات يتم توظيفها في الزمان والمكان المحددين، وستنتهي بالحلول في أغلب الأحيان، ولا نملك في هذا الشهر الفضيل إلا أن ندعو الله أن ينهي الأزمة على خير.Original Article

زر الذهاب إلى الأعلى