قضايا ودراسات

الحاضر متحف المستقبل

عبداللطيف الزبيدي

هل كان مطلق عبارة «عبق التاريخ»، يدري أن للمتاحف عبيراً وأريجاً وشذا؟ التحفة في لغتنا معطّرة شذيّة، فهي «طُرفة الفاكهة والرياحين» (لسان العرب). يقول قدماؤنا: «لقد أتحفك من أتفحك»، فتحفة التفاحة تعيدك بآلة الزمن إلى متحف خياليّ بعيد. المتاحف آفاق خيال. كلمتا «موزيه» الفرنسية، و«ميوزيوم»الإنجليزيّة، تعودان إلى ربّات الأولمب التسع، بنات زوس، اللائي بأيديهن مقاليد الفنون: الشعر، الموسيقى، التراجيديا، الكوميديا، التاريخ، الفلك، البلاغة الحماسية، شعر الحب، الرقص.
هو ذا المتحف عابق بتاريخ الإنسانيّة، من رموز الميراث البشريّ إلى رمزيّة الأساطير. عندما تدخل المتحف ترى نفسك غيرَك حين تغادره. لقد أضيفت إليك أبعاد زمنيّة لم تكن تعرفها، أو كنت قد عرفتها بين أوراق الكتب: «ومن حوى التاريخ في صدره..أضاف أعماراً إلى عمْرهِ». في أروقة المتحف وقاعاته، أنت ترى الماضي حاضراً أمامك متجسّداً. مآثر الحضارات ومفاخر الثقافات والفنون ماثلة بين يديك، إلاّ من شخوص صانعيها ومبدعيها، الذين تعيدهم ذاكرتك إلى الحياة على هيئة هيبة ورهبة في ذهنك ومهجتك، لذلك تشعر بقشعريرة تعتريك، إنها نسائم رفرفة أرواحهم في فضاء مشاعرك ووجدانك. أرأيت كيف تجرّدت من ذاتك، غدوت ابن القرون والعصور والقارّات، متحرّراً من حدود الأعراق والأجناس وكل التصنيفات والإيديولوجيات التي طالما أقامت سدوداً وعراقيل دون وحدة أحلام الإنسانية بعالم يسوده الإخاء والتعاون المثمر.
ها أنت على عتبة متحف اللوفر في أبوظبي، الذي افتتح أمس، خطوات تفصلك عن الإقلاع على متن قطار الزمن الذي سيوقف عقارب ساعة الحاضر، لتنطلق أجنحة ساعة الإنسانيّة الموحّدة. هنا عدّاد المسافات والأزمنة مختلف. بين التحفة والتحفة قرون، ولكنّ الفاصل المكانيّ بينهما شبر أو متر. في كل خطوة تطوي السنين، عشراتها ومئاتها، لتصبح لك هويّة أمميّة ثقافية حضاريّة جامعة عالميّة. أنت العالم والعالم أنت، أنت الماضي والحاضر والمستقبل.
«اللوفر أبوظبي» تجاوب وتناغم مع «اللوفر باريس» في مجاورة الماء. الأوّل اختار «جزيرة السعديّات»، مثلما اختار الأخير أن يجاور نهر السين منذ نهاية القرن الثامن عشر، بعد انتقال لويس الرابع عشر إلى قصر فرساي. أليست السين في«السعديّات» أيضاً؟ ليس ثمّة صرح يشيده الإنسان أبعد مدى في دروس التاريخ من المتحف. إنه معرض الرموز الباقية من الزمن الماضي. إشارات وتنبيهات بألف مغزى إلا أن الحاضر ليس سوى متحف في المستقبل، فليكن رسالة سلام ووئام وعشق للإنسانيّة، فإنما تنوع الحضارات والثقافات ثروة لجميع الشعوب والأمم.
لزوم ما يلزم: النتيجة اللغوية: المتحف يعني أن يجعل الناس حياتهم تحفاً تهدى إلى الأجيال.

abuzzabaed@gmail.com

Original Article

زر الذهاب إلى الأعلى