قضايا ودراسات

الحروب دروس

اجتهدت نخبة واسعة من العلماء المتخصصين في مجالات مختلفة تشمل العلوم العسكرية وعلم النفس والاجتماع والاقتصاد، في التنظير للحروب وتوصيفها وتفسير مباعثها. ومنذ الأشكال البدائية الأولى لاستخدام القوة في النزاعات بين الإنسان وأخيه الإنسان، والتي جاءت أولاً في صورة إغارات قبلية محدودة النطاق، قبل أن تصل إلى ذروتها في الحربين العظميين، الحرب العالمية الأولى والحرب العالمية الثانية، والحروب المدمرة التي شنتها الولايات المتحدة في فيتنام ولاوس وكمبوديا وأفغانستان والعراق. منذ ذلك الوقت وحتى اليوم، كانت الحروب، وستبقى كذلك، وفقاً للقراءة المبدئية لبقايا غرائز الإنسان الوحشي التي ما زالت تسكن دواخل إنسان الحضارة المعاصرة، وسيلة العيش والاغتناء لدى الإنسان على مر العصور.
واللافت في هذا الأمر أن الحروب التي تشكل أكثر الأخطار التي هددت مصير الكوكب الأرضي ومصير ساكنيه من بشر وحيوان ونبات أكثر من مرة، والتي ما زالت في الواقع تشكل التهديد الأكثر خطورة ومداهمة ليس فقط للسلم العالمي، المنتهك أصلاً على مدار الساعة، وإنما للحياة بمجملها على وجه الأرض، اللافت أن أطرافها لا يكادون يقاربون نقيضها أي السلام، ولا يتذكرونه إلا حين يهدهم التعب وحين تميل كفة الحرب لصالح أحد طرفيها، فتصبح مفردة السلام حينئذ السلعة الأكثر تداولاً ورطانةً على ألسن وأقلام من كانوا قبلاً، حين اشتداد وطيسها ولعلعة رصاص بنادقها ومدافعها ودوي قنابلها وأزيز مقاتلاتها، رؤوس حرابها وقارعي طبولها. فتُراهم يطنبون في مزايا السلام والصلح بين المحتربين، ويكيلون المديح لطرفي أو لأطراف الحرب على قرارهم وقف الحرب وبدء مرحلة جديدة من السلام وإعادة إعمار ما هدَّمته اندفاعاتهم الحربية. فيدخل الطرفان ومعهما كامل الإقليم الذي كان حريق الحرب مندلعاً في جواره، فترة هي أقرب إلى اللاحرب منها إلى السلام الناجز، تنعم خلالها شعوب طرفي أو أطراف الحرب والشعوب المجاورة المتأثرة حكماً بتداعياتها، بفاصل زمني من الهدوء والسكينة و«رغد» العيش، تحسدهم عليها شعوب أخرى، في مناطق أخرى من العالم «لم يحالفها الحظ بعد في التمتع بهذه النعمة»، حتى وإن كانت مهددة بالزوال، «بفضل» قوة مفعول «فيروس» الحرب وحضوره الطاغي والدائم في الرؤوس الحامية ذات السطوة على مسار عملية إعادة الإنتاج اليومية الجارية في أقطار العالم قاطبة وعلى الحياة الدولية في العموم.
بهذا المعنى، فإن الحروب، بمتوالياتها التي لا تنتهي، منذ بدء الخليقة، وبداية تشكل وعي الإنسان ومعه نزوعه في الاستحواذ المتولد عن انفصال النزعة الفردية (Individualism) عن النزعة الجماعية (Collectevism) – تقدم نفسها لمختلف الشعوب والأمم، معمِّري وقاطني الكوكب الأزرق أو الكوكب الأرضي، كدروس مجانية تروم من هؤلاء جميعاً أخذ العبر من أهوالها وكوارثها ونتائجها المدمرة لهم أجمعين. ولكن دعواتها المكتومة هذه ونصائحها الضمنية، إنما المادية المتجسمة للعيان، لا تجد لها آذاناً صاغية، ولا عقولاً تعقل عواقب أفعالها، ولا ضمائر غالبة. فنزعاتها ما زالت تضرب بجذورها عميقاً في التربة الخصبة لأنساق العصبيات والغرائز ما قبل طور الأنسنة.

د. محمد الصياد
alsayyadm@yahoo.com

Original Article

زر الذهاب إلى الأعلى