الدول الصغرى وإشكاليات الدور.. قطر نموذجاً
د. ناجى صادق شراب
لم تعد الدول الصغرى عالة على المجتمع الدولي، أو على الدول الكبرى، بل بات لها دور فاعل ومؤثر في كثير من التطورات والأحداث الدولية، لدرجة أن دور الدول الكبرى لا يكتمل إلا بدور هذه الدول الصغرى، خصوصاً تلك التي تملك قدرات مالية واقتصادية. ومن العوامل التي ساهمت في تطوير دور الدول الصغرى، التحولات في مفاهيم وعناصر القوة الشاملة التي لم تعد تقتصر على عناصر القوة الخشنة التي تعتمد أساساً على عنصري السكان والقوة المسلحة.
هذا التطور في عناصر القوة، وتداعياته على نظرية الدور والمكانة، أحدث انقلاباً وتطوراً دراماتيكياً في دور الدول الصغرى التي لم تعد ترى نفسها في دور الدولة التابعة، أو الدولة التي تسير في فلك الدول الكبرى. وتتفاوت قدرات الدول الصغرى بقدر امتلاكها لعناصر القوة المتاحة والممكنة، وحسب المحدد الجغرافي، أي المنطقة الجغرافية التي تقع فيها، والتي تعتبر من اكثر المناطق في العالم استهدافاً من قبل القوى الإقليمية والدولية، ما يوسع من شبكة التحالفات وأهميتها الاستراتيجية في التفاعلات الدولية، كمنطقة الخليج العربي التي تتيح للدول الصغيرة فيها دوراً كبيراً وفاعلاً في التطورات السياسية التي يشهدها الإقليم، والنظام الدولي، فهي تستمد أهميتها من أهمية هذه المنطقة التي تعتبر من اكثر المناطق استهدافاً من قبل القوى الإقليمية والدولية.
ولا شك في أن الدول الصغرى اليوم تمثل الأغلبية الدولية، وتتيح طبيعة النظام الدولي إمكانات كبيرة أمام الدول الصغرى لتمارس نفوذاً موازياً لنفوذ الدول الكبرى، خصوصاً في المنظمات الدولية التي لها نفس العضوية والصوت، وهذا يضع الدول الصغرى على قدم المساواة مع الدول الكبرى في المنظمات الدولية، دبلوماسياً وقانونياً. ومثال على تأثير هذه الدول دور كل من لوكسمبورج وبلجيكا، وهما أصغر الدول الأوروبية والمؤثرة في سياسات الاتحاد الأوروبي.
وفي سعيها لتوسيع دورها الإقليمي والدولي ركبت بعض الدول الصغرى موجة التغيرات في بيئة القوة والفاعلين الدوليين، كما فعلت دولة قطر، وكان من أبرز أدواتها تبني فواعل غير مألوفة في الدور، مثل حركة الإخوان المسلمين وحركة حماس وغيرهما من الحركات الإسلامية المتشددة، والتحكم عن بعد في حركات وتنظيمات مثل «داعش» و»النصرة»، وغيرهما. وهذه تمثل إشكالية كبرى لم تستوعبها قطر، وتتلخص هذه الإشكالية في اقتناع صانعي القرار في قطر أن دعمهم لقوى إرهابية تمثل تهديداً للعالم، وتصطدم بمصالح ودور الدول الكبرى الإقليمية في المنطقة مثل السعودية ومصر، ودولياً بالدور الأمريكي والروسي يوفر لهم الدور.
والإشكالية الأخرى التي وقعت فيها هذه الدول مثل قطر أيضاً، هو التوجه نحو دعم دورها ومصالحها بالتحالف مع دول إقليمية مضادة، ومتعارضة مع مصالح الدول المحورية في الإقليم، وهنا يبرز نموذج التخالف مع إيران وتركيا. فكيف يمكن للدوحة مثلاً أن تجمع بين الأضداد في السياسات العربية والدولية؟ وكيف يمكن أن توفق بين عضويتها، مثلاً، في مجلس التعاون الخليجي وإبرام اتفاقات عسكرية مع تركيا، وإقامة قاعدة عسكرية تركية على أراضيها؟ وكيف يمكن أن تقيم علاقات متوازنة مع مصر وتتحالف في الوقت نفسه مع الإخوان وحركة حماس؟ هنا تبرز حقيقة التضارب وصراع الأدوار والمكانة، فحدود الدور والمكانة للدول الصغيرة محكومة بالقدرية الجغرافية وعدد السكان، وصغر المساحة وضعف القدرات العسكرية.
إشكالية الدول الصغرى، مثل قطر، أنها سمحت لنفسها أن تلعب دوراً أكبر من حجمها، إضافة إلى المواقف المزدوجة التي تعبر عن عدم القدرة على فهم مخاطر هذه الازدواجية، وعدم تقدير التغيرات السريعة، وغير المتوقعة في بنية التحالفات الدولية. هذه هي الإشكالية الكبرى التي تواجه قطر الآن. فالخيارات أمامها ضيقة، وكلها تذهب بمزيد من التصعيد والمواجهة مع محيطها الجغرافي، فإما الذهاب لخيار التصعيد، وهذا سيجعلها خارجة عن منظومتها الخليجية، وإما خيار الالتزام بالمصالح الخليجية التي يحكمها ميثاق مجلس التعاون، وهذا أفضل الخيارات وأكثرها عقلانية.
drnagish@gmail.comOriginal Article