قضايا ودراسات

الدَّرْسُ المَالِيزِي!

كمال الجزولي
في رسالة إلى بعض المواقع الإلكترونيَّة، استعاد الأكاديمي الإماراتي د. سليمان الجاسم فعاليَّة قديمة كان قد شارك فيها، على مدى ثلاثة أيام، من نوفمبر 2014، ضمن مفكِّرين ومثقَّفين مسلمين، بعنوان (الدَّولة المدنيَّة: رؤية إسلاميَّة)، وقد نظَّمها منتدى كوالالمبور للفكر والحضارة بالعاصمة الماليزيَّة، وترأسها د. مهاتير محمد، رئيس الوزراء الماليزي الأسبق.

أضاء الجاسم مساهمات مهاتير التي اتَّسمت بقدر من الصَّراحة والسَّداد، وشملت إيجابيَّات التَّجربة الماليزيَّة، رغم مشروعيَّة الاختلاف مع كثير من جوانبها، ونقد أعطاب التَّجربة الإسلاميَّة، بل لكأن هذا الزَّعيم ذي التَّوجُّه الإسلامي، والذي تسنَّم، طوال اثنتين وعشرين سنة، حكم بلد أغلبيَّة مواطنيه مسلمون، يسدِّد نقده، تحديداً، لتجربة حركة الإسلام السِّياسي في حكم بلاد كالسُّودان تتَّسم بمثل هذا التَّنوُّع واسع الثَّراء، عرقيَّاً، ودينيَّاً، وثقافيَّاً، ولغويَّاً، لكنها تجفل فَرَقاً كلما ذكرت (الدَّولة المدنيَّة)، حيث انحصرت أهمُّ ملاحظاته عن مثل هذه الحركة في أربع نستعيد عبرتها، بدورنا، هنا، تعميقاً لحسن الاعتبار:
الملاحظة الأولى: تمركزت حول إمكانيَّة النَّأي بالإسلام عن الاستعلاء على المساكنين الأغيار من أهل الملل والنِّحل الأخرى، ونجاح تلك البلاد متعدِّدة الأعراق، والأديان، والثَّقافات، واللغات، والتي تبلغ نسبة المسلمين فيها 60%، في إنجاز قدر من الاستقرار النِّسبي في عقابيل حرب أهليَّة ضروس أعاقت أيَّ إمكانيَّة للتَّنمية، وعرَّضت المجتمع للتفكُّك والانهيار. فقط بإجراء حوار مفتوح بين جميع المكوِّنات الوطنيَّة، انطلاقاً من رغبة عميقة في التَّعايش والتَّسامح، وإرادة سياسيَّة حقيقيَّة في السويَّة الدِّيموقراطيَّة التي لا تستثني طرفاً، ولا تضمر نوايا شموليَّة من خلف ظهر طرف، أو خططاً من طرف للاستعلاء على طرف، والاتفاق الصَّادق، إلى ذلك، على مبدأ تقديم الأطراف أجمعهم تنازلات ضروريَّة متبادلة، أمكن توطين السلام، وبسط الاستقرار، وتحقيق التنمية، مِمَّا حوَّل ماليزيا، خلال فترة وجيزة، من بلد زراعي إلى قوَّة صناعيَّة قادرة، إلى حدٍّ كبير، على المنافسة في السُّوق العالميَّة.
الملاحظة الثَّانية: تتعلق بضرورة التَّحديد الدَّقيق للأولويَّات، أو ما أسماه (ضبط البوصلة)، حيث دعا إلى أن يراجع المسلمون انشغالاتهم التي تضيِّع الوقت، وتبدِّد الجهد، في ما لا طائل من ورائه، كالمعارك الأيديولوجيَّة التَّاريخيَّة التي لا فائدة تُرجى منها؛ وأعلى، في نفس الوقت، من توجيه الطَّاقات إلى وضع برامج تشمل القضايا التي تمثِّل الملفَّات الحقيقيَّة في حياة معظم المجتمعات والشعوب الإسلاميَّة، ضمن غيرها من المجتمعات والشُّعوب النَّامية، كالفقر، والجُّوع، والجَّهل، والمرض، والبطالة، وما إليها، لأن الانشغال بمحاولة الهيمنة على المجتمع، وفرض أجندات أيديولوجيَّة عليه، لن يقود، على حدِّ تعبيره، سوى إلى المزيد من الاحتقان والتَّنازع، إذ إن طلبك إلى الفقراء والجَّوعى بناء الوعي الأيديولوجي أشبه ما يكون بمصارعة طواحين الهواء!
الملاحظة الثَّالثة: تتَّصل بالأهميَّة الحاسمة التي يمثِّلها الابتعاد بمسائل قيادة المجتمعات المسلمة، وحركاتها الحياتيَّة، عن فتاوى الفقهاء والوعَّاظ. وقد صدق في قوله إن الخبرة التَّاريخيَّة أثبتت أن أغلب هذه الفتاوى والتَّصوُّرات الفقهيَّة لا تحلُّ مشاكل المسلمين، فضلاً عن كونها لا تتناسب مع حركة التَّاريخ، فلا تورث المجتمعات المسلمة غير التَّخلف والجَّهل. وفي هذا السِّياق أعاد مهاتير إلى الذَّاكرة ما لا حصر له من فتاوى أولئك الفقهاء الذين حرَّموا شرب القهوة، وركوب الدَّرَّاجات، وسماع الرَّاديو، ومشاهدة التلفزيون، بل وجرَّموا محاولة عباس بن فرناس في الطيران! كما أسند انخفاض نِسَبِ العلماء في الفيزياء، والكيمياء، والهندسة، والطب، لدينا، مقارنة بما لدى بلدان الغرب، إلى فتاوى العديد من الفقهاء بأن «قراءة القرآن وحدها كفيلة بتحقيق النَّهضة والتَّقدُّم»! بل لقد بلغ أمر بعض هذه الكتابات الدِّينيَّة ذات الأثر السَّالب على المجتمع أن حرَّمت الاشتغال، أصلاً، بمثل هذه العلوم! ومن ثمَّ شدَّد مهاتير على وجوب أن تكون حركة المجتمع جريئة، بحيث يدرك النَّاس أن هذه الفتاوى ليست ديناً، ولذا فمن الخطأ (تقديس) أقوال المفسِّرين واعتبارها، كما (القرآن)، واجبة الاتِّباع!
الملاحظة الرَّابعة: تنصبُّ على ذمِّ التَّطرف والتَّعصُّب، فينبغي تعليم المسلمين أن عون الله لا يتنزَّل على المتطرِّفين، ولا على المُتعصبين. وفي هذا يقول مهاتير: «إن الله لا يساعد الذين لا يساعدون أنفسهم». فنحن المسلمين قسَّمنا أنفسنا فرقاً يقتل بعضها بعضاً بدم بارد، فأهدرنا طاقاتنا بثقافة الثأر والانتقام التي ينشرها المتطرِّفون والمتعصِّبون في أرجاء الأمَّة عبر الوسائل كافة وبحماس زائد، ثمَّ بعد ذلك كله نطلب من الله أن يرحمنا، وأن يجعل السَّلام والاستقرار يتنزَّلان على أرضنا! ويمضي مهاتير يصف ذلك بأنه ضرب من الخيال في ظلِّ سنن الله التي يخضع لها البشر، فلا بُدَّ من أن نساعد أنفسنا أولاً، وأن نتجاوز آلام الماضي، وننحاز للمستقبل. ويقول: نحن في ماليزيا قرَّرنا أن نعبر للمستقبل، بمشاركة كلِّ مكوِّناتنا العرقيَّة والدِّينيَّة والثَّقافيَّة، دون أن نهدر الوقت والجَّهد في الالتفات لعذابات الماضي، أو الانشغال بمعاركه، فنحن أبناء اليوم، أبناء ماليزيا الموحَّدة، نعيش تحت سقف واحد، ومن حقنا جميعاً أن نتمتع بخيرات هذا الوطن.
kgizouli@gmail.com

Original Article

زر الذهاب إلى الأعلى