قضايا ودراسات

الرؤيا والعبارة

خيري منصور
العبارة الشهيرة للنفري، وهي «كلما اتسعت الرؤيا ضاقت العبارة» تليق بنا كعرب في هذه الأيام، فما يجري من حولنا وتحت أقدامنا كثير، ولو استطاع أحدنا أن يكتب بأصابعه العشرين وليس العشرة فقط لما استطاع اللحاق بهذا الإيقاع المتسارع والمحموم للأحداث، حيث ما من مساحة خارج المدار الساخن، لهذا علينا أن نعترف بأن ما يكتب هو أقل بكثير من استحقاق هذا الواقع الراعف، حيث العواصف من كل الجهات وإن كان هناك من وجدوا أنفسهم رغماً عنهم في عين العاصفة.
والسرعة الفائقة التي تتبدل بها الأولويات تجعلنا كمن يبني عتبات فقط، وليس بيوتاً، أو نكتب مبتدأ الجملة ثم ننسى خبرها.
والحكمة القائلة «ما قل ودل» لا تصمد كثيراً في عصر وصفه أحد شهوده بأنه عصر الثرثرة، بحيث يصبح الصمت مطلباً عزيزاً في هذا الصخب.
اتساع الرؤيا ليس فقط الإحاطة البانورامية بالمشهد القومي بكل ما يعج به من تناقضات، بل هو في وفرة المعلومات على اختلاف مصادرها فالحدث الواحد تنقله على الفور مئات وربما آلاف الشاشات الصغيرة والكبيرة، ما يتيح للميديا أن تتلاعب من حيث التركيز والتهميش، وأحياناً تتدخل بنبرة الصوت في نشرة الأخبار لتضيف أو تحذف من مساحة الانفعال، وهناك من شبهوا اتساع الرؤيا وغزارة المعرفة بمن يحدق بلوحة فنية، وهو ملصق أنفه عليها، فهو لا يرى منها غير بقعة داكنة، ولابد له من مسافة كي يراها على نحو شمولي.
ونحن العرب بسبب ضغط الواقع تفلطحت أنوفنا على المشهد كما تتفلطح أنوف الأطفال على الواجهات الزجاجية لمحال الحلوى.
لهذا تتعدد تقاربات وروايات المشهد الواحد كما تعددت روايات العميان الذين سقطوا على الفيل ووصف كل منهم العضو الذي ارتطم به!
نقول بعد ذلك عكس ما قاله النفري، وهو كلما ضاقت الرؤيا اتسعت العبارة، وهذا سر الثرثرة التي اتسم بها عصرنا.Original Article

زر الذهاب إلى الأعلى