العجز والتيه باسم وجهات النظر
د. علي محمد فخرو
من المؤكّد أن الرّفض التام، غير القابل لأيّة مساومة، لأيّ تطبيع، من أيّ نوع كان، مع الوجود العدواني الإسرائيلي في فلسطين المحتلة، أو بالمقابل التبرير الانتهازي الظالم لذلك الوجود، سيعتمدان على المنطلقات التي يُبنى عليها ذلك الرفض، أو ذلك القبول.
ما لم نتفق على مقدار أهمية وأولوية وقدسية تلك المنطلقات التي تحكم نظرتنا إلى الصراع العربي – الإسرائيلي من جميع جوانبه، فإننا سنجد أنفسنا، نحن العرب، نعيش التخبط، والجنون المفجع الذي نراه ونسمعه يومياً من قبل هذا الإعلامي المثرثر، أو ذاك الاستخباراتي الطامع في المناصب والعطايا، أو من قبل ذلك اليهودي المجرم الشامت.
المنطلقات التي نحتكم إليها هي عروبية بالنسبة إلى كل عربي، دينية بالنسبة إلى كل مسلم، وكل مسيحي في بلاد العرب، أو الإسلام، إنسانية بالنسبة إلى كل إنسان صاحب ضمير ومشاعر إنسانية تؤمن بالعدل والإنصاف، وتنبذ ما يفرضه الأمر الواقع الظالم الحقير. لنطرح تلك المنطلقات في شكل أسئلة.
هل أرض فلسطين جزء من أرض الوطن العربي الذي تقطنه أمة عربية واحدة، أم لا؟ فإذا كان الجواب كما ينبغي، وكما يفرضه التاريخ العربي الطويل الواحد، والمصير المستقبلي المشترك والتكامل الجغرافي والثقافة الواحدة، أفلا يعني ذلك أن كل ما حدث، ويحدث، وسيحدث لفلسطين وشعبها العربي يجب أن يهم كل فرد عربي من دون استثناء؟ وبالتالي، ألا تعني تلك البديهية أن كل من يتخلى عن فلسطين وشعبها، ويتركهما لقمة سائغة في يد الغازي الاستيطاني اليهودي يخون الوطن العربي كلّه، ويهدد مصير الأمة العربية بكاملها؟
هل في هذا الموضوع وجهات نظر، كما يدعي المتحذلقون، أم أننا أمام معايير والتزامات وجودية مصيرية لا يمكن التلاعب بها تحت أي ظرف من الظروف، أو بسبب أي صراع مؤقت مع هذه الدولة، أو تلك؟
هل إن تاريخ فكر وخطاب الحركة اليهودية ، وتصريحات قادتها عبر أكثر من قرن، وحروبها العدوانية المتكررة، ومناهج الكراهية والكذب التي تدرّسها لتلاميذ مدارسها في فلسطين المحتلة، ومئات الاغتيالات التي نفذها الموساد الاستخباراتي بحق الساسة والعلماء والمناضلين والمقاومين العرب، والخريطة المرسومة لـ «إسرائيل» الكبرى من النيل إلى الفرات، هل كل ذلك كان موجهاَ ضد شعب فلسطين العربي فقط، ومقتصراً على أرض فلسطين التاريخية المسروقة فقط، أم أنه كان ضد كل شعب عربي، وشاملاً لكل الأرض العربية؟
هل إن الدعم العسكري اللامحدود لـ«إسرائيل»، من قبل قوى الاستعمار وعلى الأخص الأمريكي، يتكلم عن قوة عسكرية إسرائيلية متفوقة على القوة العسكرية الفلسطينية، أم أن أمريكا تقولها جهاراً، وبصوت مسموع، إنها لن تسمح قط للإمكانات الحربية العربية مجتمعة أن تساوي الإمكانات الحربية اليهودية التي يجب أن تكون أكثر حداثة وفاعلية وفتكاً من كل الإمكانات الحربية العربية مجتمعة؟
هل يقبل العرب بتصالح وتطبيع مع عدو غاصب، سرق حتى اليوم تسعين في المئة من فلسطين التاريخية، وهو الذي لا يزيد المقيمون من اليهود فيه على خمسة ملايين، ليتكدس اثنا عشر مليون عربي فلسطيني في العشرة في المئة المتبقية من فلسطين؟ بل، ومع احتلال عنصري اجتثاثي غاصب يتحدث عن ضرورة طرد نحو مليونين من الإخوة العرب الفلسطينيين القاطنين حالياً في الجزء الفلسطيني المحتل، من أجل أن يصبح كيانه يهودياً لا مكان فيه للآخرين؟
هل إن اعتراف الآخرين، مضطرين أو مضللين، بشرعية سرقة السارق، يبرر، ويستوجب اعتراف المسروق بتلك الشرعية؟ ثم هل كان ألوف الشهداء الذين ماتوا من أجل منع جريمة السرقة تلك، هم من أهل الدار الفلسطينيين، أم كانوا من كل بلاد العرب، من أقصى غربها إلى أقصى شرقها؟ أليس من حق هؤلاء جميعاً علينا ألا تذهب دماؤهم الطاهرة وتضحياتهم العظيمة هدراً؟ فأين المروءة، وأين العدالة في كل ذلك؟
هل حقاً إن عدواً خبيثاً كارهاً ، طامعاً في المزيد، وقاتلاً للأطفال والنساء وكبار السن من دون رحمة ولا ضمير، يمكن الركون إليه، والوثوق به كحليف استراتيجي لهذه الدولة العربية أوتلك؟ من أيّ عقل يأتي البعض بالتبريرات التي يسمونها واقعية وعقلانية؟ أم أن العجز، والتعب، والقبول بحياة المذلة والبلادة هي التي تحكم تصرفات بعض العرب؟ ثم لماذا لا تُسأل الشعوب العربية إن كانت ترضى وتوافق على ما يفعلون، ويخططون؟
ليتوقف المتحذلقون البائسون عن الحديث عن الحق في وجهات النظر المختلفة. فالأمة التي لا تعيش حسب منطلقات ومبادئ أخلاقية، ولا تعتمد موازين العدالة، والحق، والقسط، والميزان في تسيير أمورها الكبرى، ولا ترفض أن تستدرج للأخذ بالمؤقت على حساب الثابت والدائم، ولا تصر على الأخذ بالأخوة والمروءة والتضامن الإنساني، ولا يتألم ضميرها لرؤية دموع الأطفال واليأس في عيون الآباء والأمهات في مخيمات اللاجئين البائسة المنسية.. هي أمة قررت أن تنسحب من التاريخ، ومن التزامات العدل الإلهي، لتعيش في كنف غوايات الشيطنة، والشياطين.
hsalaiti@kpmg.com