قضايا ودراسات

العرب في مواجهة تدخلات القوى الإقليمية

الحسين الزاوي
يعرف المشهد السياسي العربي الراهن وضعية غير مسبوقة منذ تأسيس الدول الوطنية الحديثة، تتميز باستباحة القوى الإقليمية الكبرى لسيادة العديد من الدول العربية، بناءً على ذرائع واهية خدمة لمصالحها من جهة، واستجابة لمطالب حلفائها من الدول الكبرى داخل الحلف الأطلسي وخارجه، من جهة أخرى. ونستطيع أن نلاحظ بكل يسر أن الممارسات التي تقوم بها «إسرائيل»، وإيران، وتركيا، في المنطقة العربية من ليبيا إلى اليمن، مروراً بالأراضي الفلسطينية المحتلة، وسوريا، والعراق، ترقى إلى مستوى سلوكات البلطجة التي لم نشهد لها مثيلاً من حيث اندفاعاتها، ومدى انتشارها، إلا من خلال أفعال وممارسات القوى الاستعمارية التقليدية التي سبق لها أن استباحت الجغرافيا العربية، مشرقاً ومغرباً.
قبل سنوات قليلة فقط، كان قيام «إسرائيل» بأي اعتداء على دولة عربية بمثابة مأساة وطنية وقومية لمجموع كل الأقطار العربية، وكان الرأي العام العربي يقف بكل أطيافه ومكوناته السياسية صفاً واحداً من أجل مواجهة العدوان، وكانت الدبلوماسية العربية تتحرك بسرعة فائقة عبر مختلف المؤسسات الدولية من أجل حمل قادة «تل أبيب» على احترام الأمن القومي العربي المشترك. أما ما يحدث الآن فهو أشبه ما يكون بأفلام الرعب والخيال، حيث باتت الأراضي السورية، وتحديداً منطقة القنيطرة، تتعرض لقصف متكرر من قبل الطائرات الحربية «الإسرائيلية»، وأصبحت الحدود السورية مع الكيان الصهيوني مستباحة بالكامل، تمر عبرها بعض فصائل المعارضة المسلحة التي تحصل على الدعم المالي واللوجستي من قوات الجيش «الإسرائيلي»، كأن الأمر يتعلق بجار إقليمي لا يختلف عن بقية الجيران الآخرين. وبموازاة كل ذلك تستمر العربدة الصهيونية في غزة والضفة الغربية بشكل متصاعد، بشكل أصبحت تعمل وفقه «تل أبيب» على محاولة إعادة رسم المشهد السياسي الفلسطيني بالشكل الذي يخدم مصالحها، وبأسلوب يجعلها تمعن في بث مزيد من الفرقة والتناحر ما بين مختلف التنظيمات الفلسطينية.
أما إيران، فإنها لم تعد تجد حرجاً في التعبير عما تقول إنه حقها «المشروع» في الدفاع عن «مصالحها» في المنطقة العربية، حيث أفصحت عن سعادتها في العديد من المناسبات، بكونها أصبحت تسيطر على أربع عواصم عربية، وأكد مؤخراً أحد قادتها العسكريين أن العراق أضحى «جزءاً» من الإمبراطورية الفارسية. وتمارس طهران في السياق نفسه، أدواراً خطرة من أجل زعزعة الاستقرار في العديد من الدول العربية، سواء في الخليج من خلال احتلالها للجزر الإماراتية، أو في اليمن من خلال دفعها للأوضاع داخل هذا البلد العربي نحو مزيد من التعفن والفوضى؛ كما تحوّلت طهران إلى رقم صعب في معادلة الأزمة السورية، وأصبحت إلى جانب تركيا والدول الكبرى أحد اللاعبين الأساسيين في هذا الملف الشائك، الذي بدأت تبدو فيه الدول العربية كأنها خارج المعادلة بشكل كامل. وباتت المصالح العربية في سوريا محاصرة ما بين مطرقة طهران وسندان أنقرة؛ وذلك فضلاً عن التأثير البالغ الذي ما فتئت تمارسه إيران في رسم التوازنات الكبرى للسياسة الداخلية في لبنان، عبر ذراعها السياسية والعسكري في هذا البلد العربي الذي يمثل أحد أهم نقاط خطوط المواجهة مع «إسرائيل».
وإذا كانت مقاومة التدخلات «الإسرائيلية» والإيرانية تحظى بقدر كبير من الإجماع والمساندة في أوساط الرأي العام العربي، فإن خطورة التدخلات التركية في القضايا العربية تتسم بالكثير من الخطورة، وبخاصة إذا أخذنا في الحسبان أن النفوذ التركي المتصاعد في الوطن العربي بات يحظى بدعم منقطع النظير من طرف جماعات الإسلام السياسي، التي يقوم أتباعها بحملة واسعة عبر وسائط التواصل الاجتماعي من أجل الترويج لمشاريع العثمانية الجديدة، بالتزامن مع تحوّل بعض وسائل الإعلام العربية إلى منصات للدفاع عن سياسة أنقرة ولتلميع صورة رئيسها.
يحدث كل ذلك في سياق جيوسياسي لم يعد يخفي فيه أردوغان أطماعه في إحياء مجد الدولة العثمانية، من خلال حديثه عن الحقوق التاريخية لتركيا في العديد من المناطق العربية، من الموصل مروراً بحلب ووصولاً إلى ليبيا، وتجلت مواقفه بكل وضوح من خلال انتقاده لرموز الدولة التركية الحديثة، التي اتهمها بالتفريط في الحقوق التاريخية لتركيا داخل مستعمراتها العربية السابقة. وبالتالي فمن غير المستبعد، أن تأخذ التدخلات التركية في الوطن العربي أبعاداً أكثر خطورة بعد إعلان أردوغان مساندته المطلقة لمواقف الدوحة في خلافها الأخير مع السعودية والإمارات والبحرين ومصر، وقد تلجأ أنقرة لاحقاً إلى استعمال قاعدتها العسكرية في قطر من أجل ممارسة الابتزاز السياسي ضد دول الخليج.
ويمكننا القول عطفاً على ما سبق، إن تراجع السياسات العربية المتعلقة بالأمن القومي المشترك، وسقوط قوى عربية إقليمية كبرى مع بداية الاحتلال الأمريكي للعراق، واندلاع أحداث الأزمة السورية، وانكفاء مصر على نفسها للأسباب العديدة التي يعرفها الجميع، فضلاً عن التحديات الكبرى التي تواجهها منطقة الخليج، وانعدام الاستقرار الذي تشهده منطقة المغرب العربي منذ تدخل الحلف الأطلسي من أجل إسقاط نظام القذافي؛ وغيرها من الأحداث الجسام التي شهدتها الأمة العربية، تمثل في مجموعها عوامل مركّبة ومعقدة، أسهمت بشكل لافت في ارتفاع عنف وحدّة سياسات البلطجة التي تمارسها القوى الأجنبية الإقليمية، التي تستبيح بوتيرة متصاعدة سيادة البلدان العربية، بدعم ومباركة في أحايين كثيرة من بعض أبناء جلدتنا الذين تحوّلوا إلى شركات مناولة تعمل بكل إخلاص وتفانٍ من أجل خدمة أجندات الآخرين.
hzaoui63@yahoo.fr

Original Article

زر الذهاب إلى الأعلى