قضايا ودراسات

الـ «أنا» والآخر.. والمسكوت عنه

كمال الجزولي
في حوارية راقية حول موضوع (الاستعلاء الإثني) كبعض ثقافة مأزومة تعشش في عقلنا الباطن الجمعي، اتهم المفكر العراقي د. كاظم حبيب، مَنْ يهاجم الشباب بأنه «يعيد إنتاج تاريخ جده الأسود»! عقّب عليه المفكر السوداني محمد محمود، مستنكراً إساءة (اللون الأسود)، فانتبه كاظم، واستدرك، ليس فقط بالإقرار بخطئه، وإنما بعزو الأمر، في شجاعة نادرة، وسط شناشن المكابرات السائدة، لا إلى مجرد (زلة لسان)، بل إلى تأثير ثقافة بالية تحط من قدر ذوي البشرة السوداء، فنستخدم، من دون وعي، تعبير (السوق الأسود) بدلاً من (الموازي)، و(الحظ الأسود) بدلاً من (العاثر)، و(التاريخ الأسود) بدلاً من (المخزي)، وهلمجرا. ثم مضى يعيد المسألة إلى النظرية العنصرية التي قسمت البشرية على أبناء نوح، حيث (يافث) هو جد الجنس الآري الذي تدعي رفعته؛ و(سام) هو جد الآسيويين الأقل شأناً، و(حام) هو جد الأفارقة الذين تزعم هذه النظرية الوقحة أن الله (صبغهم) باللون (الأسود)، وجعلهم عبيداً لليافثيين والساميين، عقاباً لهم على خطيئة ارتكبها جدهم! وأخيراً تسنم كاظم قمة الرقي الفكري، متمنياً على أنصار حقوق الإنسان، والكتاب، وعموم المجتمع، أن يتخلصوا من خطاب هذه الثقافة البالية في جميع الحضارات واللغات!
أحسن السيدان محمود وكاظم، نزع الغطاء عن هذه القضية. مع ذلك لا يزال مسكوتاً عن أخطر جوانبها، وهو المتعلق بالوهم الفادح الذي يستعمر عقل ووجدان قطاع عريض من الجماعة المستعربة المسلمة نفسها، في السودان خصوصاً، بشأن نقاء عرقها، وكذا لغتها وثقافتها، مما أنتج وضعية (استعلاء) استقبل بها هذا القطاع، لاحقاً، صورة (الوطن) و(الوطنية) و(المواطنة)، بالمفارقة لحقائق الهجنة التي ترتبت على خمسة قرون بين التاسع والرابع عشر الميلاديين من اختلاط الدماء العربية الوافدة بالدماء المحلية، النوبية بالذات.
وتكفي مراجعة عجلى لكتاب (الطبقات)، أو (كاتب الشونة)، أو بعض سلاسل الأنساب وأشجارها ومستنداتها، وجلها مختلق، كوثائق تمليك الأرض، أو غيرها من المصادر التاريخية، للكشف عن مدى الجهد والوقت اللذين أهدرهما ذلك القطاع في (تنقية) أصوله من العناصر المحلية، وإرجاعها، ليس لأعرق الأنساب (القرشية)، فقط، بل وإلى (بيت النبوة) نفسه!
هكذا، وعلى حين راح القطاع المشار إليه يسقط وعيه الهويوي (المنتحل) على صورة (الوطن)، وعلى حين راح يُراكم الثروات من الموارد المنهوبة، ضمن نظام التجارة البسيط على أيام مملكة سنار، فاتحاً الطريق لنشوء وتسيد تيار (الاستعلاء السلطوي) في السياسة والاقتصاد والاجتماع والثقافة، وعلى حين راحت (سنار) نفسها تذوي لعدة عوامل، كان ذلك القطاع مشغولاً، في ملابسات صراع الثروة والسلطة، باحتياز أسلاب المملكة التي كان قد نشط في تفكيكها؛ وبتأسيس منظوره الخاص للبلاد التي لم تعد غير كنف موطأ لامتيازاته وحدها، وبتعميق رؤيته الفادحة ل (الذات) و(الآخر)، حيث أصله وحده الكريم، ولسانه وحده الفصيح، أما كل من عداه فبلا أصل، وأما لسانه فمحض رطانة أعجمية! دمه وعرضه وماله وحدهم الحرام، أمّا (الآخر) فكافر لا حرمة لدمه، ولا لعرضه، ولا لماله! لون (الآخر) إما أسود أو أزرق، أما لونه هو فذهبي تارة، وقمحي تارة، وعسلي تارة، وتارة (خاطف لونين)، حتى إذا دكن وصار إلى سجم الدوكة أقرب، فتلك (خدرة دقاقة) أو (سمرة) تتدوزن بفتنتها الأعواد في المدن، والطنابير عند السواقي! وذاك مبلغ ما علم من قوله (ص): «تخيروا لنطفكم فإن العرق دساس»، كضرب من إخضاع النص الديني ل (إيديولوجيا الاستعلاء)، إذ يفسر الحديث إثنياً، رغم «اعتبار الإسلام لمثل هذه الاتجاهات جاهلية ممقوتة»، وحثه «على تخير الزوجة من منبت صالح بمفهوم أخلاقي وديني، وليس إثنياً بحال» (الصادق المهدي، «تباين الهويات في السودان» قاعة الشارقة بالخرطوم 23 مارس/‏‏آذار 2004م)، وبتكريس هذا كله استعلاءً جهيراً في حمولة الوعي الاجتماعي من حكم شعبية تشكل حاجزاً نفسياً بين أهل السودان.
ولا تخفى مسؤولية الفئات المزودة بمستويات عليا من المعرفة المتخصصة عن إزكاء (نزعة استعلائية) أصبحت تتهدد (الوحدة الوطنية) بخطر حقيقي، بحكم انحيازها إلى الطبقات (السلطوية/‏‏ التفكيكية)، ما يستوجب تأسيس الموقف التفاوضي ل (العقلانيين/‏‏ التوحيديين) من القطاعات الأخرى على نزع الأقنعة عن كل المغطى، وكشف المتكتم عليه، وتعرية المسكوت عنه في علاقاتنا الإثنية، فتلك أول خطوة باتجاه المخرج من مأزقنا الوطني الراهن، إذ «ما يفرق السودانيين هو ما لا يُقال»، على حد تعبير فرانسيس دينق.

kgizouli@gmail.com

Original Article

زر الذهاب إلى الأعلى