قضايا ودراسات

الفرد والمؤسسة.. مرة أخرى

د. مصطفى الفقي
إذ تأملنا المؤسسات السيادية، أو العامة، أو الاقتصادية، أو حتى الوحدات الإدارية الكبيرة فسوف نكتشف أحياناً طغيان دور الفرد على قمتها مكتسحاً في طريقه كل ما عداه، مبتلعاً المؤسسة، كأنه يردد عبارة ملك فرنسا لويس الرابع عشر (أنا الدولة، والدولة أنا)، فبعض كبار المسؤولين يتوهمون أنهم قادرون على التعبير الكامل وحدهم عن المؤسسات التي يقودونها، وتكون النتيجة ذوبان المؤسسة بالكامل في شخص رئيسها الذي لا يتورع عن اختزالها بالكامل في ذاته، فتصعد معه أحياناً وتهبط به غالبًا، وتلك ظاهرة خطرة لا تظهر إلا على مستوى الدول المتخلفة سياسياً، المرتبكة إدارياً التي تسعى إلى شخصنة المناصب، بل وتفصيلها أحياناً على مقياس من يريدونهم، والأمر في ظني يثير إشكاليات متعددة لعل أبرزها:
أولاً: إن اختزال المؤسسات في شخوص من يتولون أمرها هو أمر معيب يؤدي إلى ضياع شخصية المؤسسة، واستبداد الفرد بالقرار، وإمساكه بكل الخيوط على نحو يعوق عملية التصعيد المطلوبة لعناصر شابة يجب أن تتقدم الصفوف، وقد شهدت في حياتي الوظيفية نماذج لطغيان الفرد، سواء أكان وزيراً، أم مديراً، أم مسؤولاً كبيراً، حتى إننا أحياناً ننسب المؤسسة إلى ذلك الفرد الذي يتولى رئاستها، ويسيطر على قيادتها. ولا شك في أن ذلك عوار في علم الإدارة.
ثانياً: إن كلمة المؤسسة تعني بالضرورة أن هناك نظاماً (System) يجري اتباعه، وقواعد مرعية، ولوائح رسمية، لا ينبغي الخروج عليها، لذلك فإن استحواذ قمة المؤسسة على كيانها الكلي هو تأكيد لمعنى واحد وهو غياب النظام. فغياب القاعدة. واختفاء النظم والتقاليد الوظيفية والأعراف التي تحكم العلاقة بين الفرد والمؤسسة. كل ذلك يؤكد نوعاً من الارتجالية في العمل، والعشوائية في التفكير، ويحرم المؤسسات والوزارات من حق التطوير والارتقاء، بل ويجعلها أداة طيعة في يد فرد، أو حفنة من القيادات في ظروف معينة، بينما الأصل هو أن تكون هناك قواعد حاكمة، ونظم مرعية، وألا يترك الأمر لفرد هو الذي يقرر ما يشاء في الوقت الذي يريد، مهما بلغت كفاءته، وتميزت خبرته، فالمؤسسة هي الأصل، كما أنها هي الأبقى في كل الأحوال.
ثالثاً: إن أبدية الوظائف مستحيلة، ولا يوجد مسؤول يضمن لنفسه البقاء كيفما يريد، فالحياة تقوم على تداول السلطة، ودوران النخبة، ولا تسمح أبداً بالجمود الإداري الذي يضع على قمة أية مؤسسة صنماً يركع أمامه الجميع، لأن ذلك يؤدي غالباً إلى بحثه عن شهرته، وإيمانه المطلق بذاته، وشعوره بأنه حالة خاصة بين البشر. وما أكثر ما رأينا ممن يمشون على الأرض في خيلاء كأنهم يخرقونها، ويبلغون الجبال طولًا. فلو أن هناك نظاماً معمولاً به لأوقف جموحهم، وجعلهم يدركون أنهم جزء من المؤسسة، وأن طغيان شخصياتهم، ومحاولاتهم صبغ المؤسسة باللون الذي يريدون هو أمر غير ممكن. ولعلي أجازف هنا وأقول إن جزءاً من صراع الأجيال ينطوي على المخاطر الناجمة عن هذه النقطة بالذات التي تتمثل في محاولات السيطرة من الأجيال القديمة على الأجيال الجديدة، وفرض وصاية عليها، وتأكيد نوع من الأبوية الزائفة التي تقهر ملكات الشباب، وقدراته الإبداعية، وميزاته الوظيفية.
رابعاً: إننا لا نصادر على المدير قوي الشخصية، ولا رئيس المؤسسة الذي يتميز بالحنكة والحصافة والحكمة والذكاء، ولكننا نهمس في أذنه: لن تكون الوحيد، فقد سبقك غيرك، وسوف يأتي بعدك آخرون، فلا تكن مشتطاً في ما تفعل، ولا متوحداً في قراراتك، ولا تتصور أنك حالة خاصة، ويمكنك أن تترك بصمتك شرط أن تفسح المجال لغيرك أيضاً، واعلم أن قيمة المدير الناجح هي فيمن يترك بعده من كفاءات يمكن أن تملأ مكانه، وأن تقود المؤسسة بعده، أما أن تتوهم أنك أو الطوفان من بعدك، فذلك سقوط مروع في علوم السياسة والإدارة والاقتصاد والاجتماع.
أقول هذه الكلمات وعيني على كثير من الوزارات والمؤسسات التي أدعو المعنيين بشؤونها إلى مراعاة ما نتحدث عنه، لأن الأمر يرتبط بعملية التنمية، ومسيرة الديمقراطية الوظيفية، والقدرة على انتشال الوطن من مصاعبه، ومتاعبه، ومشكلاته.. إن التوازن بين الفرد والمؤسسة هو الطريق إلى وطن أكثر استقراراً، وحياة أفضل لكبار المسؤولين وصغارهم، على حد سواء.Original Article

زر الذهاب إلى الأعلى