قضايا ودراسات

الفكرة القومية.. من الإيديولوجيا إلى الحزب

عبد الإله بلقزيز
ما كان للإيديولوجيا السياسية القومية العربية إلاّ أن تجد لنفسها، في محطَّةٍ من محطات تطوُّرها التاريخي، تعبيرَها المؤسَّسي: السياسي والتنظيمي. ويمكن حسبان الصيرورة تلك في جملة المسارات الطبيعية التي تقطعها الأفكار التي من هذا الجنس، أعني الأفكار التي تتحول إلى إيديولوجيات سياسية. وهي عينُها المسارات التي قطعتها الفكرة الإسلامية (الإحيائية) والفكرة الاشتراكية (الشيوعية)؛ وهما زامنتا الفكرة القومية العربية نشوءاً وأدْلجة. وبيان ذلك أن انتقال فكرة ما إلى إيديولوجيا (القومية في حالتنا) يفرض على اشتغالها منطقاً غير الذي يَحْكم اشتغالها حين تكون موضوع رؤية فكرية، والمنطق الجديد الذي تسير فيه هو منطق عملي صرف، وإن عرضت نفسَها فيه عرضاً فكرياً. حين تطرح الفكرة القومية العربية نفسها في نطاقٍ فكريّ- كما طرحت نفسها في القرن التاسع عشر- تتّخذ شكل أسئلة متعلقة بالتاريخ والثقافة والفلسفة: العروبة، الهوية، النهضة، التقدم…إلخ، وحين تؤول إلى إيديولوجيا سياسية، تفكّر في مسألة سياسية: الوحدة القومية؛ لكن ما يكون في حكم الشأن السياسي المفكَّر فيه في فترة (الوحدة القومية في حالتنا)، يصبح، في فترة أخرى، في حكم الشأن المعمول على تحقيقه تحقيقاً مادياً. وهذه لحظة ثالثة، في مسار الفكرة، ينفصل فيها المنطق العملي عن المنطق النظري -؛ حيث تجاورا في اللحظة الثانية (الإيديولوجية) – فيتحوّل الأوّل (العملي) إلى منطق حاكم وموجِّه.
منطق الإيديولوجيا السياسية، إذن، يقود إلى الفعل السياسي حكماً. والأخيرُ هذا قد يكون عشوائياً، أو تلقائياً، إن لم يجد نخباً سياسية توفّر له الأطر والأقنية التنظيمية للتعبير عن نفسه، وقد يكون منظَّماً إنْ توفّر له حَمَلة سياسيون مجرّبون. أمّا لماذا يقود المنطق ذاك إلى فعلٍ سياسيّ، فلإنه يخلق جمهوراً سياسياً، أي قاعدة اجتماعية متشبّعة بالفكرة التي بثَّتْها الإيديولوجيا السياسية تلك. ولكنّ الجمهور السياسي هذا ما كان ممكناً استيلاده وإنشاؤه بالتعبئة السياسية فحسب، وإنما غالباً ما تعْثر الإيديولوجيا والتعبئة على شرائح منه جاهزة لاستقبال خطابها، وهي الشرائح المتعلمة التي تَشكَّل وعيُها من تراث النهضة وهواجسه العروبية.
إنّ إدراك أسباب النجاح السريع في صيرورة الإيديولوجيا القومية مؤسَّسة سياسية وحزبية يسير على المرء حين يلْحظ أنّ كثيراً من التنظيمات والأحزاب القومية العربية، التي نشأت في سنوات الثلاثينات والأربعينات من القرن العشرين، كان وراء نشأتها مثقفون قوميون عرب، هم أنفسهم مَن حملوا عبء تحويل فكرة العروبة إلى فكرة قومية سياسية، فنشروا إيديولوجيتها من طريق التأليف والصحافة والمحاضرات العامة. كان هؤلاء (زكي الأرسوزي، ميشيل عفلق، صلاح البيطار، عصمت سيف الدولة، و- إلى حدٍّ ما – قسطنطين زريق) يستكملون ما بدأه الجيل الأول من المثقفين القوميين العرب (جيل ساطع الحصري). كان الحصري و- إلى حدٍّ ما- نجيب عازوري جسْرَ عبورٍ للفكرة العربية من لحظتها النهضوية ( العروبة) إلى لحظتها السياسية (القومية العربية). أما الجيل الثاني فتحوَّل جِسْرَ عبورٍ لها من لحظتها السياسية-الإيديولوجية إلى لحظتها التنظيمية الحزبية.
وليس من شك في أنّ شرعيةَ الحزبيةِ القومية العربية حوفِظَ عليها؛ بل تعزّزت أكثر- بوجود مثقفين مناضلين كبار وراءَها وقيامهم عليها، وهم الذين كانوا-في المقام الأوّل- وراء انتشار الفكرة في بيئات اجتماعية واسعة، وخاصة في أوساط الفئات المتعلمة من الطبقة الوسطى. ووطَّد أركان الشرعية أكثر أنّ المؤسسات الحزبية القومية ما اكتفت، في عملها السياسي، بالعمل من أجل الوحدة العربية فحسب؛ بل انصرفت إلى تعبئة الجمهور للنضال ضدّ الاحتلال الأجنبي، ومن أجل الاستقلال الوطني، ثم للنضال من أجل الحريات والبناء الديمقراطي مؤلِّفةً، في بناءٍ جدليّ، بين المسألتين الوطنية والديمقراطية. ثم ما لبث أن حصل منعطف كبير في مسيرة بعضها حين تآلف النضال من أجل الوحدة مع النضال من أجل العدالة الاجتماعية (الاشتراكية) بمناسبة توحُّد «حزب البعث»، بزعامة ميشيل عفلق، و«الحزب العربي الاشتراكي»، بزعامة أكرم الحوراني، في حزب واحد سرعان ما انتشرت فروعه في كلّ مكان. وهكذا ضمِنَ دورُ المثقفين القوميين المؤسّسين مكانة اعتبارية مميَّزة للمؤسسات الحزبية التي أقاموها، وكرّسوا شرعيتها في نظر قاعدتها الحزبية والاجتماعية خلال المراحل الأولى من قيامها.
هناك تاريخان للأحزاب والقوى السياسية القومية هما: تاريخ حزبي وتاريخ سلطوي. في أولهما كانت الأحزاب والقوى تلك جزءاً من المجتمع، وذات شخصية تمثيلية معتَبَرة، ناهيك عن الطابعٍ العقائدي الذي ميَّزَها في الخطاب كما في ممارسة راديكالية مشهورة. أما في ثانيهما فأخذت سيرتُها السياسية مجرى آخر مختلفاً تراوحت فيه سياساتُها، في السلطة، بين براجماتية قطرية فاقعة ومنزِعٍ تسلُّطي إقصائي غالب.

hminnamed@yahoo.fr

Original Article

زر الذهاب إلى الأعلى