قضايا ودراسات

القضية الفلسطينية بين روسيا وأمريكا

الحسين الزاوي
تمر القضية الفلسطينية في المرحلة الراهنة بمنعطف دقيق وبالغ الخطورة، نظراً للتحولات الجارية على الساحتين الدولية والإقليمية، حيث إنه ومنذ اندلاع ما سمي بثورات الربيع العربي، الذي أسهم بشكل لافت في تراجع سلطة وهيبة الدولة الوطنية في الشرق الأوسط، انتقل مركز الاهتمام لدى مختلف الفاعلين المؤثرين على مستوى المشهد السياسي في المنطقة من القضية الفلسطينية إلى قضايا أخرى تتعلق بإعادة تشكيل الخارطة السياسية للدول العربية مشرقاً ومغرباً. وبالتالي فإنه وبعد عقود من الزمن من الحسابات السياسية التي بنتها النخب السياسية الفلسطينية، انطلاقا من مشاريع التسوية التي رعتها الأطراف الدولية، بات من الواضح لدى الجميع أن الجانب «الإسرائيلي» لن يقبل على المدى المنظور بتأسيس دولة فلسطينية كاملة السيادة، كما أن القوى الكبرى تبدو الآن منشغلة أكثر من أي وقت مضى، بإعادة ترتيب جغرافيا المنطقة العربية بعد الانهيار الفظيع وحالة الفوضى العارمة التي مسّت عواصمها الكبرى من دمشق إلى بغداد.
وصار من الواضح في اللحظة نفسها أن الأحداث الجسام التي شهدتها المنطقة أصابت الأمن القومي العربي في مقتل، ولم يعد ثمة خيار أمام الشعب الفلسطيني سوى الاعتماد على قدرة أبنائه على الصمود من أجل تجسيد مشروع التحرر الوطني الفلسطيني، مصداقاً لمقولة صائب عريقات: «إن لم نساعد أنفسنا لن يساعدنا أحد»، لأن الجانب الأمريكي ينظر إلى علاقاته مع «إسرائيل» انطلاقاً من حسابات تتعلق بتوازنات السياسة الداخلية في البيت الأبيض، بينما يحرص الجانب الروسي من جهته على المحافظة على ما بقي له من مصالح في الوطن العربي. أما الدول الأوروبية الأخرى وفي مقدمتها فرنسا وبريطانيا، فإنها لا تمتلك، بشأن الملف الفلسطيني، أجندة سياسية مستقلة عن الحليف التقليدي في واشنطن، ولها فضلاً عن ذلك أولويات جيوسياسية وجيواستراتيجية في المنطقة العربية بعيدة كل البعد عن تعقيدات الصراع الفلسطيني – «الإسرائيلي» الذي قال عنه شمعون بريز، إنه صراع فيه الكثير من التاريخ والقليل من الجغرافيا.
وقد جاءت الزيارة الأخيرة للرئيس الأمريكي إلى الأراضي الفلسطينية المحتلة لتؤكد مرة أخرى أن واشنطن، تكرر خطاباً حول ما تسميه السلام في المنطقة، لكنها تحرص في المقابل في كل مناسبة على تأكيد التزامها بأمن «إسرائيل»، وهي المسألة التي أكد عليها ترامب في كل لقاءاته الأخيرة مع قادة «تل أبيب» وبخاصة عندما تحدث بكثير من الإطناب عن البعد الاستراتيجي للعلاقات الأمريكية – «الإسرائيلية»، دون أن يشير لا من قريب ولا من بعيد إلى الاستيطان وإلى سياسة قضم الأراضي ولا إلى معاناة الفلسطينيين في سجون الاحتلال، بل أنه لم يكلف نفسه عناء الإشارة ولو لمرة واحدة إلى مسألة الالتزام بحل الدولتين، على الأقل من باب تأكيد حسن النوايا وجبر الخواطر. وعليه فإنه وبالرغم من كل ما حدث ويحدث حتى الآن على مستوى المنظومة السياسية الدولية، فإن كل الأطراف المعنية بالقضية الفلسطينية باتت تؤكد إما سراً وإما علانية أنه لم يعد هناك شيء يرجى من سياسات واشنطن في المنطقة، بالنظر إلى التبعية شبه المطلقة للنخب السياسية الأمريكية للوبي اليهودي البالغ القوة والتأثير في البيت الأبيض.
ويمكن القول إن واقع المواقف الروسية من القضية الفلسطينية لا يختلف كثيراً من حيث الجوهر عن المواقف الغربية، فمعظم القراءات الرصينة للسياسة الروسية في المنطقة العربية تجمع على أن حرص روسيا على الحفاظ على علاقاتها مع «إسرائيل» لا يقل عن حرص الدول الغربية على توطيد علاقاتها مع «تل أبيب»؛ غاية ما في الأمر هو أن موسكو، تريد الحفاظ على مصالحها في الشرق الأوسط من خلال تبني خطاب يختلف من الناحية الشكلية على الأقل عن الخطابات والمواقف الغربية، وبالتالي فإن المواقف الروسية تبدو في نهاية المطاف، كمناورات ظرفية تهدف إلى الحصول على تنازلات غربية بالنسبة للعديد من الملفات الخلافية؛ حيث تشير المعطيات التاريخية ذات الصلة، إلى أن مسار العلاقات الروسية – الفلسطينية بدأ مع سنة 1882 مع تأسيس الجمعية الأرثوذكسية الفلسطينية من أجل الدفاع عن مصالح المسيحيين الأرثوذكس في الأراضي المقدسة. ومن ثمة فإنه وبالرغم من غياب الانحياز الروسي الكامل والعلني لسياسات «تل أبيب» الاستيطانية، بالشكل الذي نجده لدى الطرف الأمريكي، إلا أن سياسة مسك العصا من الوسط التي تتبناها موسكو، لم تسهم طوال عقود من الزمن في دفع «تل أبيب» إلى تغيير مواقفها بشأن ملف الاستيطان وسياسة القتل والتشريد، وبخاصة إذا أخذنا في الحسبان النفوذ الواضح الذي تستطيع أن تمارسه موسكو على اليهود الروس الذين هاجروا بأعداد هائلة إلى «أرض الميعاد» منذ الخمسينات من القرن الماضي، هذا النفوذ الذي نجد بصماته الواضحة بالنسبة للصراع الدائر حاليا على مستوى الجغرافيا الشرق أوسطية.
وعليه فليس أمامنا في هذه العجالة سوى الاستنتاج عطفاً على ما سبق، أن القضية الفلسطينية عندما تخرج عن مقتضيات الوحدة الوطنية الفلسطينية وعن متطلبات الأمن القومي العربي المشترك، يكون مصيرها مزيداً من ضياع الحقوق ومزيداً من التشرذم والخذلان لا سيما في هذه المرحلة التاريخية العاصفة التي ضاعت فيها المعايير والقيم والتبست فيها المفاهيم والمصطلحات، وصارت فيها موسكو أقرب من دمشق، وأضحت فيها بغداد أبعد من واشنطن.

hzaoui63@yahoo.fr

Original Article

زر الذهاب إلى الأعلى