قضايا ودراسات

اللعب بنار التاريخ

حسام ميرو
حين وضع فرانسيس فوكاياما مقولة «نهاية التاريخ»، حدّد نظاماً سياسياً هو الليبرالية الديمقراطية كأفق نهائي للدولة الحديثة، معتبراً أن الدولة الشمولية في طريقها للأفول، واستند في رؤيته إلى قراءة العديد من النماذج الشمولية عبر التاريخ، وفي مقدمتها تجربة الاتحاد السوفييتي، والتي آلت إلى السقوط، نتيجة تلك الشمولية التي لم تتمكن من الصمود، بفعل المتغيّرات الدولية، من جهة، ومن جهة أخرى، بفعل عدم استجابتها لتطورات البنية الاجتماعية الاقتصادية الداخلية.
وإذا كانت قراءة فوكوياما منحازة بالضرورة للنموذج الليبرالي الغربي، في سياق تطوراته التاريخية، خصوصاً بعد معاهدة وستفاليا الموقعة في عام 1648، والتي وضعت الدولة كمفهوم أمام سكة تاريخية جديدة، ومن ثمّ توسّع الدول إلى إمبراطوريات في القرن التاسع عشر، وبعد ذلك انكسار الطموحات القومية نتيجة للحربين العالميتين اللتين شهدهما القرن العشرين، إلّا أن تلك القراءة لنهاية التاريخ تبقى قراءة نظرية تقيم في الأفق المستقبلي لما ستؤول إليه الدول.
لا تبدو سياقات الصراع في الألفية الثالثة على المستوى الدولي منسجمة مع «نهاية التاريخ»، بل إن الدول التي يفترض بها قد أنجزت الدولة الليبرالية الديمقراطية في مأزق يتمثل في عدم قدرتها على التأثير في مجريات الصراع الدولي، بل إن احتمال خضوعها لتأثيرات الصراع تبدو قائمة، وهو ما أكدته أزمة أوكرانيا على سبيل المثال لا الحصر، فالحاجة الأوروبية للغاز الروسي دفعت السياسات الأوروبية عامة، والألمانية على وجه الخصوص، نحو إقامة هدنة متعددة المستويات مع الطموحات الروسية.
لقد وضعت روسيا قدمها الأولى في أوكرانيا، والثانية في المتوسط، وسط عدم لا مبالاة من الصين، بل إن الصين بدت موافقة على الخطوات الروسية، وساندت روسيا في مجلس الأمن بما يخصّ الموقف من النظام السوري، وأسهم القبول الصيني في نجاح الفيتو الروسي في عدم معاقبة دمشق، على الرغم مما مارسه هذا النظام ضد شعبه، لكن الصين، في إطار محاولة وضع يدها على جزر آسيوية في محيطها الجيواستراتيجي، لم ترَ ضيراً من الخطوات الروسية، فالصين لا تبدي اهتماماً حقيقياً لشكل ومبنى الدولة، بعيداً عن تطلعاتها في المنافسة الدولية، والتي راحت تنتقل في العقد الأخير، وبشكلٍ واضح، من المنافسة الاقتصادية إلى المنافسة العسكرية، وهو ما يمكن ملاحظته بشكل واسع ودقيق في مؤشرات زيادة الإنفاق العسكري الصيني.
النموذجان الروسي والصيني ليسا استثناءً في المشهد الدولي، فالجمهورية الإسلامية الإيرانية هي الأخرى، ومنذ ولادتها في عام 1979، راحت تستعيد نموذجها الإمبراطوري التوسّعي، وفي سبيل تحقيق ذلك النموذج، أسهمت إيران في ضرب أي تحوّل ليبرالي ديمقراطي في المشرق العربي، وبنت سياسات ومؤسسات تتكيّف مع الفوضى الموجودة في محيطها، معتبرة أن سيناريو عدم الاستقرار مفيد لمصالحها التوسّعية، وأن تعميم هذا السيناريو من شأنه أن يجعلها قادرة على بسط نفوذها عبر كلّ المنطقة، وهو ما نشهده فعلياً من خلال منعها قيام دول حقيقية في العراق وسوريا ولبنان، وإنشاء وكلاء محليين تابعين لها بالضرورة، مستخدمة في ذلك جملة من الأدوات، من مثل الإيديولوجيا المذهبية، والمال، والسلاح، والإعلام.
يبدو أن الميل إلى استعادة نموذج الدولة التوسّعية يعمل بقوة في تاريخنا الحاضر، وأن رفض المضي نحو النموذج الليبرالي الديمقراطي ينمُّ عن رفض الخروج من التاريخ نفسه، فليس التاريخ مجرد شكل ل «الدولة»، بل اكتساب الوجود والنفوذ، وتبني شرعية تتناسب مع المطامح التوسّعية، حتى لو كانت متناقضة على طول الخط مع ضرورة مطابقة النظام السياسي لاحتياجات التنمية الاجتماعية، والتعدّدية السياسية، والتوزيع العادل للثورة، وصون حقوق وحريات الجماعات والأفراد.
لكن اللعب بنار التاريخ، ومحاولة جرّه إلى الخلف، تحمل في طياتها عودة أسوأ ما في التاريخ، وهي الحروب التي أودت بحياة ملايين البشر، في إشارة واضحة إلى عدم مراكمة الوعي بالتاريخ نفسه، ولا مبالاة واضحة بكلّ القيم التي أنتجتها الإنسانية في مرحلة الحداثة، وارتداد العقل عن العقلانية، وعدم الالتزام بفكرة الأمن والاستقرار الدولي، وهو ما يزيد المخاوف من انتكاسات قد تصيب الدول الليبرالية الديمقراطية نفسها، خصوصاً إذا ما وجدت نفسها خاسرة جرّاء التزاماتها تجاه القيم التي تبنّتها، وعدم قدرتها على تطوير اقتصاداتها خارج دائرة التنافس الإمبراطوري الجديد.

husammiro@gmail.com

Original Article

زر الذهاب إلى الأعلى