قضايا ودراسات

المشترك الإنساني وصراع المصالح

يمر عالم اليوم بفترة عصيبة من تطوره.. ويظل الشيء المؤكد في ظل المتغيرات الكبرى التي عرفتها الساحة الدولية منذ أكثر من عقدين ونصف من الزمن، هو أن العلاقات الدولية أصبحت خاضعة بشكل لا لبس فيه لمنطق القوة أكثر منها لمقتضيات القانون الدولي، خاصة وأن معظم الدول الكبرى تتعامل مع هذا الأخير بنوع من الاستهتار والانحراف تارة، والتهميش والانتقائية تارة أخرى.
هناك عدد كبير من الاتفاقات الدولية، التي تجسّد في مضمونها مصالح القوى الكبرى، فيما لا تخفى الآثار الكارثية التي يفرزها السّعي المتزايد للدول نحو سباق التّسلح، وما يخلّفه ذلك من أجواء الشّك والحذر في الساحة الدولية.
كما أن المؤسسات الدولية على اختلاف تخصصاتها وأهدافها، التي وجدت بقصد ترسيخ التعاون وتحقيق السلم والأمن الدوليين، أصبحت في واقع الأمر مجرّد أدوات تخدم مصالح الأقوياء بفعل تغييب البعد الديمقراطي في أدائها، ولا تختلف وضعية المؤسسات القضائية الدولية عن هذه الأحوال، بعدما غدت بلا سلطات فعلية، وتكرّس عدالة الأقوى.
فيما تحرص الكثير من الشركات الكبرى في عدد من الدول المتقدمة على احتكار الإنجازات المعرفية والعلمية بصورة تحرم باقي الشعوب من الاستفادة منها أو تسعى إلى تصديرها ونقلها مقابل مبالغ مالية خيالية وتعجيزية (أدوية، وتكنولوجيا حديثة..).
وإذا كانت الأمم المتحدة قد نجحت إلى حدّ كبير في تطبيق السبل الوقائية لحفظ السلم والأمن الدوليين؛ عبر بلورة مجموعة من الآليات المرتبطة بالحدّ من الأزمات، بالاعتماد على مواجهة واحتواء العوامل المسببة للنزاعات قبل حدوثها، أو من خلال جهود وكالاتها المتخصصة في المجالات التنموية والصحية والتربوية والتقنية.. في مناطق مختلفة من العالم، وفي تعزيز التعاون الدولي في مجالات عديدة، فإن عملها على مستوى إعمال التدخلات الزجرية لحفظ السلم والأمن الدوليين أو لرد العدوان بعد نهاية الحرب الباردة، تميّز بنوع من الانحراف تارة، وعدم الفعالية تارة أخرى.
لم تسمح فترة الحرب الباردة بتوتّرها وهواجسها الإيديولوجية والعسكرية باستيعاب المجتمع الدولي لمختلف المخاطر التي كانت تتهدّد الإنسانية جمعاء؛ ولذلك فقد تمّ اختزال السلم والأمن الدوليين في تلك الحالة التي يفترض فيها غياب الصراعات والمواجهات ذات الطبيعة العسكرية..
غير أن سقوط الاتحاد السوفييتي وانهيار جدار برلين، أتاحا للعالم الالتفات إلى قضايا ومشاكل أخرى لا تقلّ في خطورتها وأهميتها عن النزاعات العسكرية، ما يسمح بتوسيع مفهوم السلم والأمن الدوليين، لينفتح بذلك على مخاطر أخرى، كما هو الشأن بالنسبة لتلوّث البيئة؛ وتمدّد الإرهاب، وتنامي الأمراض الخطرة العابرة للحدود والجريمة المنظمة..
والواضح أن تشابك العلاقات الدولية نتيجة لتزايد الاعتماد المتبادل وتشابك المصالح بين مختلف أطراف القانون الدولي، جعل من مواجهة هذه المخاطر الآخذة في التطور أمراً ملحّاً؛ لما تفرضه من تحديات أمام جميع الدول، في ظرفية لم تعد فيها الحدود الجغرافية والسياسية حصناً منيعاً للاحتماء من تداعياتها.
إن تنامي هذه التحديات بصورة تؤثر بالسّلب في السلم والأمن الدوليين، وما رافقها من تزايد الشعور بمخاطرها على الإنسانية جمعاء باعتبارها أولويات لا تعني شعباً بعينه أو دولة دون أخرى، ساهم بصورة ملحوظة في تعزيز فرص التعاون والتنسيق الدوليين، وبذل مجموعة من الجهود والمبادرات الجماعية، وعقد المؤتمرات منذ بداية التسعينات من القرن المنصرم من أجل محاصرتها.
فتزايد الوعي بخطورة هذه التحديات على الإنسانية، وعلى مستقبل كوكب الأرض؛ سيسهم بلا شك في تجاوز مختلف المشاكل التي تشوّش على التواصل بين دول وشعوب العالم، وتوفير الأجواء اللازمة لمواجهة المخاطر والقضايا المشتركة والمصير الإنساني الواحد.
طالما شكلت المحطات القاسية في تاريخ الإنسانية من حروب وصراعات، مناسبة لبلورة تصورات وجهود جماعية في سبيل إرساء الأمن وحلّ الخلافات وتجاوز أسبابها، ونستحضر في هذا الشأن عقد معاهدة «ويستفاليا» التي أعقبت حروباً دامية في أوروبا وتأسيس عصبة الأمم ومنظمة الأمم المتحدة في أعقاب الحربين العالميتين، الأولى والثانية..
وفي ضوء التحديات والمخاطر الراهنة التي تواجه الإنسانية جمعاء، أضحى تحقيق السلام في مختلف تجلياته وأبعاده، مهمّة جماعية ولا تهمّ شعباً دون آخر أو دولة دون أخرى.. فهذه المخاطر التي تضاف إلى مراكمة دول عدة لترسانة ضخمة وخطرة من الأسلحة المدمّرة والمتطوّرة؛ تشكّل تهديداً للإنسانية جمعاء، ولما راكمته مختلف الحضارات من منجزات علمية وتقنية على امتداد التاريخ.
حقيقة أن الوعي بخطورة هذه التحديات على الإنسانية جمعاء، سيعزّز فرص التعاون والتواصل بين مختلف دول العالم، لمواجهة تحديات مشتركة ومصير إنساني واحد؛ ويشكل عاملاً داعماً على هذا الطريق..
فمواجهة المخاطر الدولية المطروحة هي مسؤولية جماعية يفترض أن تتحملها الدول من خلال اعتماد سياسات وقرارات تسهم في دعم السلم والأمن الدوليين، والسعي للمحافظة عليهما، وهي أيضاً مسؤولية المجتمعات، ويفترض أن ينخرط فيها الباحثون الأكاديميون وفعاليات المجتمع المدني ووسائل الإعلام المختلفة..؛ وجدير بالذكر أن هذه الجهود لن تأتي أُكلها إلا من خلال الاقتناع بالمصير الواحد..
لقد حان الوقت لاستحضار المشترك الإنساني في مختلف أبعاده كسبيل لمواجهة تحديات ومخاطر إنسانية، هذا المشترك الذي يمتد في ثنايا التاريخ، ويتعداه إلى الحاضر والمستقبل، فقد أصبح العالم مجرد قرية صغيرة تحتضن مصالح متشابكة، فيما تزايدت أدوار الفاعلين الجدد في الساحة الدولية من منظمات دولية وشركات كبرى وأفراد ورأي عام عالمي.. بصورة تراجع معها المفهوم التقليدي للسيادة، وتعززت حقوق الإنسان في أبعادها الكونية بعيداً عن أي تمييز عرقي أو ديني أو أي عامل آخر يرتبط باللون أو النوع أو الجنس..
ولا تخفى التأثيرات التي أفرزها تطور تكنولوجيا الاتصال وبروز شبكات التواصل الاجتماعي على مستوى بلورة ثقافة جديدة تنبذ الإيديولوجيا والانتماءات الضيقة في مقابل اعتبار شعوب العالم شركاء في كوكب واحد تتهدّد سكانه مخاطر مشتركة..
د.إدريس لكريني
drisslagrini@yahoo.frOriginal Article

زر الذهاب إلى الأعلى